Sunday 10 August 2008

استبدال العقول العراقية بسدنة المعابد

2008/07/20
القدس العربي
لقد غير غزو العراق واحتلاله العديد من المفاهيم التي كانت سائدة عالميا حول دور العلماء والأكاديميين وإستقلاليتهم وموضوعيتهم. فقد ادى استخدام الادارة الامريكية للاطباء اما في التعذيب او في تغطية جرائم التعذيب وخاصة في معتقلات الاحتلال في العراق الى اعادة النظر في المفهوم الانساني للطب وكيف يحمي محترفو المهن الانسانية انفسهم ازاء من يسيء الى المهنة ككل. كما ادت المغريات العديدة التي وفرتها الادارة الامريكية في الفترة السابقة لشن الغزو وما بعدها في عصر الاحتلال لعلماء المجتمع والعلوم الإنسانية الأخرى الى انخراط عدد منهم للعمل ضمن منظومة الغزو بحجة توفير قاعدة المعلومات لفهم الطبيعة البشرية بدون التطرق الى التساؤل لمصلحة من؟ وقد وجد بعض الخريجين الجدد من الباحثين، هذا اذا قبلنا بافتراض السذاجة في التطوع للعمل مع الجهاز العسكري الامريكي والبريطاني، فرصة ذهبية لجمع المعلومات عن السكان وتقييمها وتقديمها اما بشكل بحوث او كتب تتيح لهم تأمين النجاح الشخصي وارتقاء المناصب ويفيدون في الوقت نفسه منظومة الاحتلال العسكرية في تقديم المعلومات والتقييمات عن اهل البلد المحتل ليتمكنوا من احكام هيمنتهم عليهم ورسم المخططات المستقبلية للسيطرة على المنطقة. وبلغ التداخل بين العسكري الامريكي والعلوم حدا جديدا عندما ساهم العسكر، جنبا الى جنب مع العلماء، في الكونغرس العالمي السادس لعلماء الآثار الذي انعقد في نهاية شهر حزيران (يونيو) هذا العام في مدينة دبلن الايرلندية. وقد قاد النقاش في المؤتمر الكولونيل ماثيو بوغدانوس، الناطق باسم جيش الاحتلال الامريكي، اثناء نهب وتخريب متحف الاثار العراقي. وقد أختير عنوان (العمل مع العسكريين ليس شرا بل ضرورة) كمحورللنقاش من قبل العسكريين المشاركين للترويج لفكرة التطبيع والقبول بالتعاون ما بين القوات العسكرية والعلماء باعتبار القوات العسكرية ذراعا للحكومة الشرعية كما جاء في مقدمة النقاش. وهذه فكرة يحاول بعض علماء الآثار إستثمارها للتخفيف من تأثير الحرب على مواقع الاثار، وان كانت تؤدي في الواقع الى تخفيف اعراض المرض اي الغزو العسكري واظهار القوات العسكرية بمظهر انساني، وهي تماثل، الى حد بعيد، تبرير بعض السياسيين لتعاونهم مع المحتل باعتباره امرا واقعا. وقد بلغ المضحك المبكي مداه في مؤتمرهذا الصيف في دبلن عندما قدم عسكريو الاحتلال الامريكي علبة تحتوي اوراقا للعب الكوتشينه (مثل ورق اللعب الذي ضم صور مسؤولي النظام السابق) تضم صورا للآثار العراقية كطريقة لتعريف جنود الاحتلال بآثارنا ولكن بعد ان تم تحويل العديد من مواقعنا الأثرية الى معسكرات للجنود وصارت آثار مدينة بابل، وهي ملك لا للشعب العراقي فحسب بل للحضارة الانسانية، ترابا وحصى وضع في أكياس استخدمها جيش الغزاة كمتاريس لحمايتهم، بحيث أننا حسب تصريح علماء الآثار البريطانيين، قد خسرنا تلك الآثار الى الابد.وعلى الرغم من ان استخدام علماء الاثار والباحثين كذراع لخدمة الاستعمار والتوسع الامبراطوري العسكري ليس جديدا الا ان شكله الواسع والعلني الراهن ومناقشة تطويره بأوراق وبحوث في المؤتمرات العلمية والاكاديمية، بعيدا عن مراكز ودوائر الاستخبارات العسكرية والامنية، جديد حقا. وهو يعكس، في حالة العراق، لجوء الامبراطوية الامريكية الى تحريك كل البيادق المتوفرة لديها لمواجهة المقاومة العراقية. ومن بين البيادق المستخدمة في هذه الحرب، ايضا، بالاضافة الى العلماء والباحثين والاطباء، هناك الاكاديميين والاعلاميين المعروفين، عادة، بانهما ذراعا السياسة الخارجية للدول. وقد قامت ادارة الاحتلال الانجغلو امريكي الصهيوني وبمساعدة مستخدميها المحليين بتهيئة الارضية للهيمنة الاقتصادية والثقافية والمجتمعية بعيدة المدى وزراعة ما تشاء فيها من قبل فرقها المتنوعة عن طريق تفريغ العراق من عقوله، وإستبدالهم بالخدم الأميين أو بذوي العقول الخانعة الممجدة للكولونيالية الجديدة. لذلك لم يكن مستغربا شن الحملة، منذ ايام الاحتلال الاولى، لاغتيال الاكاديميين والعلماء والاعلاميين والاطباء بالاضافة الى تخريب التعليم بكل مستوياته واستهداف كل من لديه القدرة على امتلاك المعرفة. ان العقول العراقية كانت كما أعلن عنها بعضهم منذ نهاية الثمانينات هي الخطر الحقيقي لا دعاوى أسلحة الدمار الشامل. فالمعرفة بنظر المحتل وعملائه خطر يجب القضاء عليه، وبكل الطرق، لانه يهدد وجودهم ومشروع هيمنتهم بعيدة المدى. بينما يؤدي تشجيع الطائفية والعرقية والميليشيات في حكومة وبرلمان من دمى الى الانشغال بالتقاتل على محاصصة المناصب والفساد ونشر الجهل المنظم. وكما يعلمنا التاريخ منذ القدم، لايخشى الغزاة سدنة المعابد المنغمرين في طقوس الخدمة والانحناء اليومي امام مرجعية الاصنام بل ان ما يخشونه هو عقول الناس التواقة الى المعرفة والحرية. وقد فضل الكثير من علمائنا واطبائنا واكاديميينا مغادرة البلد محافظة على حياتهم ومعرفتهم وخبرتهم، وتدل احصائيات منظمة الهجرة الدولية التابعة للامم المتحدة ان 80 بالمئة من الاطباء العراقيين هم خارج العراق الآن، في سورية والاردن ومصر ولبنان، ومعظمهم بلا عمل. وحال الاساتذة والصحافيين والفنانين والادباء ليس افضل بكثير. وهناك عدد قليل ممن تمكن من الحصول على اللجوء في الدول الاوربية وعدد اقل ممن قبلته امريكا كعربون صداقة وعرفان بالجميل (لتحريرها) العراق. وباضافة ارقام المهاجرين الجدد الى القدماء الهاربين في فترات زمنية مختلفة في ظل النظام السابق ومحنة الحصار الجائر، تصبح امامنا صورة مخيفة عن تفريغ العراق من عقوله سواء عن طريق الهجرة او الابادة الجسدية، وقد لخص الدكتور جوزيف ساسون من جامعة اوكسفورد البريطانية الحال في محاضرة له منذ ايام بان الاستهداف في عهد صدام حسين كان مرتبطا بالموقف السياسي اما الآن فانه استهداف منظم للمعرفة. وتشكل مساهمة ساسون واحدة من البحوث الاكاديمية القيمة التي تم تقديمها على مدى يومين في جامعة لندن هذا الأسبوع، خلال مؤتمر عقدته الرابطة الدولية للدراسات العراقية المعاصرة. وقد تم تأسيس الرابطة من قبل نخبة من الاكاديميين العراقيين ذوي المكانة في الاوساط العالمية بالتعاون مع عدد من غير العراقيين في المستوى ذاته. ومن الذين بادروا بالفكرة ومتابعتها من العراقيين، طارق اسماعيل، بروفسور العلوم السياسية في جامعة كاليغري في كندا وزوجته البروفسورة جاكلين اسماعيل، والدكتور كامل مهدي من جامعة أكستر البريطانية، والدكتورة شهرزاد قاسم حسن المقيمة في فرنسا. والمؤتمرالسنوي الحالي هو الثالث وتم فيه تقديم دراسات مختصة عن الشأن العراقي من قبل اساتذة وباحثين من من جميع انحاء العالم من عراقيين وأوروبيين وعرب. وكان من بين محاور المؤتمر الاقتصاد والنفط والمرأة والهجرة والنزوح القسري وتأثير الحركات الاسلامية وتأثير الغزو على الثقافة والفنون وحرق المكتبات و الفساد الاداري في حكومات الاحتلال المتعاقبة ونشوء طبقة الحكام الجديدة الفاسدة ماليا. وكان من محاور الندوة ما نظمته الدكتورة آن الكسندر بمناسبة مرور خمسين عاما على ثورة 14 تموز، والذي ساهم في جلسته المفتوحة في قاعة كلية الدراسات الشرقية الدكتورة هالة فتاح والبروفسور كمال مظهر أحمد من جامعة بغداد. وقد تحدث البروفسور كمال عن اهمية دراسة ارشيف الوثائق السرية البريطانية فيما يتعلق بالثورة وغيرها من الاحداث المهمة في تاريخنا، فضلا عن تأكيده على اهمية البحث عن نماذج ترسخ الوحدة الكردية العربية والتي نحن في امس الحاجة اليها في وضعنا الراهن. واختار المؤرخ الكبير تقديم صورة ذكرت في الارشيف عن كيفية استقبال اهل البصرة للبارزانيين العائدين من منفاهم في الاتحاد السوفييتي بعد ثورة 1958 وما صاحب الاستقبال من احتفالات وحبور عم الجميع.وترعى الرابطة الدراسات والبحوث المختصة بالشأن العراقي هادفا الى بناء الجسور بين الاكاديميين العراقيين من داخل وخارج العراق مع الجامعات ومراكز البحوث والدراسات الاجنبية واستنادا الى الرغبة في احترام القيم الاكاديمية الهادفة الى فهم اعمق لعراق موحد، ديمقراطي، تعددي وغير طائفي. عراق مستقل من الاحتلال وأي تدخل اجنبي. كما تصدر عن الرابطة مجلة فصلية محكمة. ان تجربة تأسيس الرابطة ونجاحها التدريجي المبني على العمل التطوعي البحت، يرينا، بوضوح، امكانية القيام بنشاطات واعمال تخدم الصالح العام، العراقي والعالمي بشكل مفتوح، مع تبني موقف سياسي سليم يضع صالح الشعب العراقي وتقدمه المعرفي بالدرجة الاولى، أمر ممكن اذا ما توفرت النية الصادقة. ويدفعنا ايضا الى تصور ما كان في امكان العراقيين ذوي العقول العلمية القيام به من انجازات تعليمية وصحية وعمرانية لو توفرت لهم حكومة وطنية مخلصة تمثلهم ومع وجود مليارات الدولارات التي نهبت حتى الآن ولاتزال تنهب من قبل الاحتلال اما تحت ناظري الحكومة الحالية، باعضائها من سدنة المعابد، او بالتعاون معها. ' كاتبة من العراق