Wednesday 10 November 2010

وزيرة البيئة العراقية وثانوية الموت للبنات

القدس العربي
15/10/2010
لعلها واحدة من المرات النادرة ان يشترك كادر تدريسي، في مدرسة ما، مع الطلاب في اعتصام جماعي. الا ان هذا ما حدث في ثانوية عدن للبنات، في منطقة الشعب ببغداد، ولأسباب تمس حياة كل الموجودين في مبنى المدرسة بعيدا عن تراتبية المواقع.
اذ شارك الجميع في الأعتصام بعد ان اصبح الدوام في الثانوية مرتبطا بتسجيل 'حالات اصابة بأمراض الدم ووفيات بين طالبات المدرسة وهيأتها التدريسية في العامين الأخيرين'، مما اضطر وزارة التربية الى إخلاء المبنى اشتباها بوجود تلوث اشعاعي فيها. وأرسلت لجنة مشتركة من وزارة التربية والصحة للوقوف على حقيقة الأمر، وتوثيق حالات الوفيات والاصابات السابقة، نقلا عن وكالة أصوات العراق التي اجرت مقابلة مع وزيرة البيئة نرمين عثمان يوم الثلاثاء الماضي، ذكرت فيها الوزيرة أن 'الفحوصات المختبرية أثبتت عدم وجود اي تلوث اشعاعي داخل الثانوية، ضمن الحدود غير الطبيعية، وسيذهب فريق آخر لفحص المنازل المحيطة بالمدرسة بمشاركة فريق من وزارة الصحة للـتأكد من سلامة تلك الدور من التلوث الاشعاعي'. وأكدت الوزيرة بأنها ' طلبت من الفريق ان يحمل الاجهزة معه اثناء الفحص لمعرفة القياسات'!
وقد يكون اعلان وزارة البيئة عن خلو المدرسة، بالتحديد، من الاشعاع صحيحا لولا انه صادر عن جهة تعودنا على سماع صوتها نافيا للحقائق، كما أثبتت سنوات الاحتلال بانها مسيسة، غير مستقلة علميا، وتخشى ان صرحت بالحقيقة، ان تكلفها الحقيقة وظيفتها وموقعها السياسي. فمن المعروف ان الاعتراف بوجود التلوث الاشعاعي وغيره مما نتج عن استخدام قذائف اليورانيوم المنضب والاسلحة المحرمة دوليا، يعني الاعتراف بالمسؤولية عن جريمة يحاسب عليها القانون الدولي، وتتضمن المحاسبة مسؤولية الدول المشاركة بتحديد المواقع وتنظيفها، وهي عملية ستكلف الولايات المتحدة الامريكية، اكثر من غيرها، مليارات الدولارات، بالاضافة الى دفع التعويضات الى المصابين وأهاليهم وعددهم يتجاوز الآلاف. وعدم الاقرار بالمسؤولية خصلة من خصال أمريكا التي لم تعترف لحد الآن بجريمتها الكارثية على الشعب الفيتنامي عندما رشت غاباته وأدغاله، من 1962 الى 1971، بثمانين مليون ليتر من العامل البرتقالي (أيجنت اورانج) المضاد للاعشاب، للقضاء على مقاومة الشعب الفيتنامي. ولايزال العامل يسبب انجاب اطفال مشوهين بعد مرور عقود على استخدامه. وفي تقرير للصليب الأحمر الفيتنامي فان المادة الكيمياوية السامة في العامل وتدعى الدايوكسين أثرت على ثلاثة ملايين فيتنامي وان ما لا يقل عن 150 ألف طفل ولد بتشوهات خلقية. وكما يتضح من وضع العراق الحالي ان خصلة انكار قول الحقيقة لا تقتصر على المحتل الامريكي لوحده بل تتعداه الى ساسته المحليين.
وتكفينا متابعة تصريحات وزيرة البيئة المتأرجحة ما بين الانكار المطلق لوجود أي تلوث اشعاعي في العراق وما يسببه من خراب بشري وبيئي وما بين فلتان بعض الحقيقة منها، احيانا، لنفهم منهجية التضليل الاعلامي المغلف بلغة هلامية، تصطبغ بالموضوعية، على شاكلة ' علينا أن نكون حذرين في الوصول الى استنتاجات حول الاسباب'، كما ذكرت في تعليق لها لصحيفة الغارديان في كانون الثاني/يناير 2010. وكانت الصحيفة قد نشرت تحقيقا عن دراسة علمية عراقية مشتركة (المفارقة هي اشتراك وزارة البيئة فيها) أثبتت ان هناك أكثر من اربعين موقعا في انحاء العراق كافة ملوثا بمستويات عالية من الاشعاعات النووية والمواد السامة مع تزايد ظهور اعراض الاصابة بالسرطان والتشوهات الولادية لدى السكان خلال السنوات الخمس الماضية. وكانت هذه الدراسة قد وجدت أن الخردة المعدنية للمعدات والتجهيزات العسكرية القديمة في وحول بغداد والبصرة تحتوي على نسب عالية من الاشعاع المتأين والذي يعتقد انه بقايا اليورانيوم المنضب الذي استعمل كذخيرة اثناء حرب الخليج الاولى عام 1991ومنذ بداية الغزو عام 2003 . وقد ركزت دراسة اشرف عليها بروفسوركريس بازبي، بالتعاون مع فريق عراقي، نشرت في مجلة علمية محكمة مؤخرا، على مدينة الفلوجة التي تعرضت لاستخدام الاسلحة المحرمة دوليا اثناء اجتياحها في عام 2004. وتبين الدراسة وجود ارتفاع كبير في التشوهات الولادية، فاقت المعدلات المعروفة في هيروشيما وناغازاكي اللتين قصفتا بقنبلة نووية عام 1945، فضلا عن حالات الاصابة بالسرطان، بانواعه، بين سكان المدن الجنوبية وبغداد والنجف، خاصة بين النساء والاطفال. واوضحت تقارير ودراسات طبية بان معدلات الاصابة بسرطان الدم لدى الأطفال ارتفعت خلال العام 2006 بنسبة 22 بالمئة قياساً بالحالات المسجلة عام 2005. وإرتفعت معدلات الاصابة بسرطان الثدي لدى النساء بنسبة 19 بالمئة. فما هو رد فعل وزيرة البيئة في حكومة ' العراق الجديد'؟
تقول وزيرة البيئة البريطانية: 'أن الوضع الصحي في المدينة ليس جيدا وليس هناك نظام لتصريف المجاري هناك بالاضافة الى الكثير من النفايات الراكدة ما يسبب أمراضا تؤثر على الجينات بشكل مباشر'. الا انها ولكونها تتحدث مع صحيفة أجنبية لا تجد مفرا من الاعتراف : ' لكننا على أية حال على علم بان هناك الكثير من اليورانيوم المنضب قد استعمل هناك'. وان التعاون مع برنامج الامم المتحدة للبيئة أدى الى اكتشاف '42 موقعا قد تم الاعلان عنها كونها عالية الخطورة بسبب المواد الكيماوية السامة واليورانيوم'. كما تشير التقارير الى وجود نسبة عالية من الدايوكسين السام المماثل لما استخدم في فيتنام. على الرغم من هذا كله أصدرت وزارة البيئة تقريرا في شهر حزيران / يونيو أكدت فيه ' خلو مياه واجواء وتربة العراق كلها من الاشعاعات النووية'. هنا نتوقف لنتساءل عما حدث خلال الخمسة اشهر الأخيرة، لتصدر وزارة البيئة، بعلم الوزيرة، تقريرا كهذا؟ فهل تم تنظيف الـ 42 موقعا 'عالي الخطورة' كلها؟ هل ازيلت المواد الكيمياوية وبقايا اليورانيوم، كما نتمنى جميعا؟ وكيف يتطابق هذا التصريح المطلق مع تصريح رئيس هيئة الطاقة الذرية العراقية عدنان جرجيس لصحيفة الغارديان بأنه: 'حينما وصل مفتشو الوكالة الدولية للطاقة الذرية لزيارة هذه المواقع قلت لهم اننا حتى لو كان لدينا افضل العلماء في العالم لغرض المساعدة فانه لا يستطيع أحد منهم أن يعتبر العراق نظيفا قبل عام 2020 '؟، وهل أشرفت (لا اقول عملت) وزارة البيئة على تنظيف اماكن العجلات العسكرية والدبابات المحطمة وسكراب السيارات الصدئة قرب بغداد وغيرها من المدن التي اذا ما سحبت نجد 'دائما اشعاعا في مكانها ... حيث ان المنطقة ما بين بغداد والبصرة جميعها تمثل مدخلا غير مفحوص بالنسبة للأطفال والزبالين'، حسب بشرى علي أحمد مديرة مركز الاشعاع في بغداد؟ أم ان مهمة وزارة البيئة الاساسية تقتصر على اصدار التقارير ذات الطابع العلمي، ظاهريا، المتغاضية عن ذكر الاسباب المؤدية الى الوضع الكارثي الحاضر؟ مما يجعل الدراسات والبحوث وحضور المؤتمرات عن البيئة، على كثرتها، وحتى تأسيس منظمات المجتمع المدني، حجابا لطمر الحقيقة وابعادا عن ايجاد الحلول بينما تتزايد اعداد الوفيات بين النساء والاطفال بسرعة كبيرة لاصابتهم بالاشعاع وغيره منذ فترة حمل الأم وحتى استنشاق الهواء حتى التوجه الى المدارس، اذا بقوا أحياء . وكانت السيدة نرمين عثمان، باعتبارها وزيرة الدولة لشؤون المرأة وكالة، قد اعترفت بنفسها، في حزيران 2008، بأن تقارير وزارة الصحة سجلت وجود اصابات بمرض سرطان الثدي لدى فتيات عراقيات بسن 13 وهي حالة نادرة الحدوث في العالم . غير ان الوزيرة سرعان ما ندمت على لحظة الحقيقة النادرة لتنفي يوم 11 أيلول / سبتمبر 2008، وجود زيادة في اصابات مرض السرطان بالعراق وإن معدل الإصابة بها يعد طبيعيا بالنسبة لعدد الإصابات بهذا المرض في دول العالم و'انها ضمن الحد المقبول'!
ولعل ما يعلق في الذهن أكثر من غيره، تشديد الوزيرة على: 'أن أهدافا خفية تقف وراء إثارة وجود علاقة بين التلوث الاشعاعي الناجم عن استخدام هذه الأسلحة وزيادة أمراض السرطان'، مما يدفعنا الى التساؤل عن طبيعة ' الاهداف الخفية' التي تدفعها هي وبقية المسؤولين العراقيين الى نفي العلاقة بين الإشعاع والتشوهات وامراض السرطان أولا، ثم الى التقلب والتنصل مما يبدر منهم بين آونة وأخرى من إعتراف بالحقائق، والى تبني مواقف لا يمكن ان يصدقها أحد مهما بلغت درجة سذاجته وايمانه المطلق بقوات 'التحرير'. مواقف على غرار قولها الغاضب ردا على سؤال حول العلاقة بين استخدام القوات الامريكية قذائف اليورانيوم المنضب وازدياد حالات السرطان : 'المواقع التي تحوي اشعاعا هي 25 موقعا فقط لكن المضروبة بالاشعاع هي فقط الدبابات، الاكثرية هي الدبابات والاليات العسكرية، كان استخدام اليورانيوم المنضب عليها فقط لأن لديها قابلية خرق ولم يستعملوها على المناطق، فقط على الاليات العسكرية والدبابات خصوصا الدبابات'. ترى بعقول من تستخف الوزيرة حين يصدر عنها مثل هذا؟ ألم تقرأ، وهي المسؤولة عن البيئة، عشرات البحوث التي تثبت انتشار غبار اليورانيوم القاتل في الجو والتربة وانتقاله الى كافة مناطق العراق والبلدان المجاورة، وان هناك دراسات تربط ما بين انتشاره وازدياد حالات السرطان في منطقة الخليج؟ وكيف تبرر انتشار الحالات والاعراض في اقليم كردستان، مثلا، اذا ما كان تأثير يورانيوم 'قوات التحرير' المنضب قد بقي محصورا 'فقط على الاليات العسكرية والدبابات' في بقية انحاء العراق؟ الا تعلم الوزيرة وزملاؤها بأن المسؤولية القانونية التي تتحملها قوات الاحتلال ستمتد لتشملهم إذا ما استمروا في التستر على جرائم الحرب المشهودة هذه؟ وفي حال غياب الرادع القانوني، كيف ستهرب، وهي المرأة والأم، من واقع الضحايا وذويهم، من أثداء النساء المصابات بالاورام السرطانية المميتة ورؤوس الاطفال المشوهين؟