Saturday 26 November 2011

أقاليم للبيع والفرهود في مزاد تقسيم العراق

28/01/2011
هناك حملات بيع وشراء مستمرة تجري في العراق. فمنذ اليوم الاول للغزو أصبح العراق، بحدوده التي باتت أكثر مطاطية من المطاط، معروضا للبيع وتحت مسميات مختلفة لتقسيم اقاليمي فيدرالي سني شيعي كردي عربي مسيحي تركماني، برعاية الإحتلال، أنه التقسيم الذي سعى ويسعى اليه الأستعمارالانكلو أمريكي ـ الاسرائيلي للعراق كما لبلدان المنطقة الأخرى التي يصعب ترويضها. وترتفع حرارة دعوات التقسيم بأشكاله فترة ثم تخفت في فترة اخرى، حسب جدولة العملية السياسية وقوة او ضعف التدخلات الاقليمية لدولة على حساب دولة.
تحول البلد الى مزاد مفتوح، لكل من هب ودب من الطامعين، باستثناء مواطنيه المخلصين الداعين الى تحريره واستقلاله ووحدته.
واثبتت سنوات الاحتلال المريرة ان هناك مزادات علنية واخرى سرية، يصل بعضها حد الاتجار بالانسان نفسه، باجساد الاطفال والفتيات، وبعقول الكبار ليكرسوا خطأ القائل ان الأنسان هو اغلى رأسمال. الباعة الذين أنجبهم الاحتلال مشغولون بعرض بضائعهم ولا يهمهم أنهم لا يملكون ما يبيعونه من ارض وما تحتها من ثروة نفطية، من بيوت بعد تهجير سكانها، ومن سماء لتحلق فيها طائرات العدو بطيار او بدون طيار للتجسس والمراقبة وجمع المعلومات عن اهل البلد وجيرانه. ما يهمهم هو المال وكيفية تقاسمه وتهريبه، وتفتيت البلد الى دويلات وعشائر وطوائف لتسهيل عملية البيع، ولتذهب الاخلاق والمبادىء والقيم الى الجحيم، ولسان حالهم يقول فليأتي من بعدنا الطوفان. ما يعرضونه للبيع كبضاعة هو المهم وما يتم الحصول عليه من مال لقاء البضاعة هو المهم مع اضافة بعض بهارات 'الوطنية' المستخدمة لانجاح التسويق والترويج لا غير.
ومادام كل شيء معروضا للبيع، لن يتخلى المستعمر الامريكي عن مستعمرة الخدم وسدنة المعابد الطيعين. هذه حقيقة لايتطرق اليها الشك. قد يغير المستعمر شكله وتكتيكاته، واساليب عمله، ووجوه المتعاونين معه، او الحكام بالنيابة، الا انه سيتشبث بكل الطرق الممكنة للبقاء.
ومن هنا تنبع تغييرات معادلاته السياسية والاقليمية الآنية وتحالفاته مع هذا الطرف السياسي او ذاك مهما كان طائفيا او عرقيا او قاعديا. فالمعروف عن ساسة الادارة الامريكية ان ما يميل بكفة الميزان لديها هو من يخدم مصالحها، ولو لفترة قصيرة، مهما كان لون عمامته او علمانية بنطاله. من هذا المنطلق، بامكاننا فهم درجة ميلان مسؤولي الادارة الامريكية نحو المشاركين في عمليتها السياسية من عراقيين واقفين على أهبة الاستعداد للخدمة عند الطلب. ومن هذا المنطلق، يمكن فهم درجات الخدمة والتواطؤ. ففي فترة سابقة قام عبد العزيز باقر الحكيم (وبدعم من أحمد الجلبي الذي تخلت عنه وكالة الاستخبارات الامريكية بعد انتهاء مدة خدمته لهم) بالدعوة الى تشكيل اقليم للشيعة في جنوب البلاد، متذرعا بالحاجة الى حماية الطائفة من دكتاتوريات مستقبلية وتحسين وضع الناس المعاشي. وخفتت الدعوة لأن 'الشيعة' الذين يدعي الحكيم تمثيلهم (ومعهم بقية الشعب) وقفوا ضد فكرة الاقليم وضد أوهام الحكيم في قيادتهم وادعائه النطق باسمهم وهو رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية الذي كانت ولادته وترعرعه ونمو ميزانية ميليشياته غير عراقية اساسا. وها نحن، نشهد اليوم، تصاعد اصوات مطالبة بأقليم للطائفة الثانية (اليسوا جميعا مسلمين؟) أي 'السنة' متذرعة بحماية الطائفة وتحسين وضعها الاقتصادي. بعض هذه الاصوات يعاني اصحابها من الخرف العقلي بينما لا يكف البعض الآخر ممن يدعي تمثيل 'السنة' من اللهاث وراء المناصب والمال، ويسلك آخرون، برضاهم، طريقا رسمه وخططه المستعمر الانكلو امريكي الصهيوني قبل الغزو بعقود.
ويلعب الحزب الاسلامي دورا في هذه العملية وهو الحزب الذي بامكانه القول، باستحقاق، بانه من اوائل المبادرين الى المتجرة بالطائفية والادعاء بتمثيل 'السنة'، منذ ايام مؤتمر لندن باشراف خليل زادة وغيره، بحثا عن موقع قدم له بين المتهالكين على المناصب والمال من جهة ولتسويق وجوده بين افراد شعب يعتبر معظمهم ان تعريف الإنسان نفسه حسب الطائفة عيب.
وهناك أسس حقيقية لرفض الطائفية وتقبل المذاهب عندنا، لأن الإنتماء المذهبي في العراق، كما في غيره من البلدان، قد يكون خيارا آنيا، شكليا أم عمليأ، يستند الى ضرورات التواصل بين العائلة وجيرانها وأصهارها وشركائها. ومع هذا الموقف العملي البسيط يأتي احترام الناس لشعائر بعضهم البعض، غير المؤذية وغير المفروضة قسرا، والتي ينظر اليها كطقوس موسمية يشترك فيها الجميع كما في الاعياد، ولا يرون ان وراثة الخلافات السياسية ذات الـ 14 قرنا مجدية في عصرنا الحالي كما انها ليست خلافات دينية، وانما اجتهادات زعامات زمانها حول الحكم ولا تسري على غير ظروفها. مع ملاحظة استخدام الطائفية سياسيا في حالات سابقا، من قبل جهات خارجية، تصارعت فيما بينها للسيطرة على العراق كالصفويين والعثمانيين والوهابيين، ولم يتمكنوا جميعا من مد جذورهم في بلادنا. الامر الذي لايزال واضحا في نظرة الشك الشعبية، عموما، الى المتسربلين بالطائفية باعتبارهم متعاملين مع الاجنبي.
واذا ما اضفنا الى الساسة الطائفيين بعض التجار وعدد من رؤساء العشائر والساسة الاكراد الذين عبر مسعود البارزاني، رئيس اقليم كردستان، عما يعتلج في صدورهم حين وصف الحديث عن عراق موحد وقوي بأنه مثل احلام العصافير، لوجدنا اننا ازاء جبهة من قوى تتهافت على تقسيم العراق او على الاقل ابقائه ضعيفا مقسما تتحكم فيه المحاصصة الطائفية والعرقية، ضمن اقاليم يفصل ما بينها مناطق 'متنازع عليها' وحدود يسهل التحكم بها، ومراكز مراقبة أمريكية لتضع حدا 'للاقتتال السني الشيعي المسيحي الكردي العربي التركماني الايزيدي' حسبما تكرر لنا تصريحاتهم المتكررة، وكأن العراق هو البلد الوحيد في العالم الذي يعيش فيه ابناء شعب من اديان وقوميات مختلفة، وكأن 95 بالمئة من السكان ليسوا مسلمين. فما هو موقفنا كوطنيين مؤمنين بوحدة العراق وندين له بالهوية والتاريخ ونبضات القلب المستمدة من تطلعاتنا نحو مستقبلنا سوية ؟ هل بامكان القلب المقطع ان ينبض؟
لقد بدأنا رحلة الالف ميل تحت الاحتلال بالمقاومة، وكما يثبت لنا تاريخ الشعوب المستعمرة فان التنازل عن حق المقاومة والانصياع لسياسة المستعمر، مهما كانت مسمياتها وتعليبها الزاهي، لن يؤدي الى غير تمديد فترة العبودية والاستغلال وتكريس سياسته. ان التنازلات المستمرة لن تحقق السلام، كما يثبت كشف اسرار تنازلات حكومة عباس في رام الله التي وصلت الى حد قيام حكومته بدور الشرطي لصالح الحكومة الصهيونية، وهو بالتحديد ما تقوم به حكومات الاحتلال المتعاقبة وساستها في العراق. لأن المستعمر، بطبيعته، وحشي وجشع لا يقر له قرار ما لم يلتهم البلد كله ويجعل من سكانه خدما طيعين تحت وهم تحقيق الامن والاستقرار والسلام. وها هي فلسطين بعد عقود من 'مفاوضات السلام'، وها هو العراق بعد ثماني سنوات من تنصيب حكومات تطبل وتزمر لـ 'السلام' وبعد توقيع اتفاقيتين امنية واستراتيجية طويلة الاجل تنازلوا فيهما عن ابسط معاني السيادة، ليوهموا الشعب بانهم يفعلون ذلك حفظا على الأمن وتحقيقا للسلام. فعن أي أمن وسلام يتحدثون؟ واين ذهبت وعود الاحزاب 'السنية' بمراجعة الاتفاقيات وتعديلها ومراجعة الدستور وتعديله؟ ولم 'السنة' لوحدهم؟ اليست سيادة العراق هما مشتركا لكل المواطنين؟
ان ما ينكره علينا المستعمر ووكلاؤه (من المستحيل ان يحقق المستعمر نجاحا، أيا كان، بدون تعاون بعض أهل البلد المحتل) هو بلدنا وهويتنا الوطنية، فهل نقبل بما يبيعه لنا بديلا؟ علينا التأكيد دائما بان هدف الوطنيين وبالتحديد هدف المقاومة الوطنية، على اختلاف فصائلها، هو تحرير العراق والمحافظة على وحدته وسيادته وكرامة مواطنيه في آن واحد. أما المساومة على تحييد الاستعمار أو الرضوخ لاستراتيجيته وتكتيكاته بذريعة القبول بالأمر الواقع أو الدفاع عن فئة ضد فئة أخرى او الدفع نحو تقطيع أوصال البلاد، فان نتيجتها واضحة وهي تمديد بقاء المستعمر وتوفير التربة الصالحة لنمو طبقات مرتبطة بوجوده. وهذا خطر حقيقي سيزداد تأثيره بمرور الوقت، ومن هنا تنشأ الحاجة الى اتخاذ المواقف التوحيدية المتوازنة بعيدا عن نكء الجروح ورش الملح عليها عبر استعادة معارك يتجاوز عمر بعضها مئات السنين ويكدس بعضهم ثرواته بتكرارها. ان ما مر به شعبنا، عبر تاريخه البعيد والقريب، على مرارته وظلمه، ليس هو النموذج الوحيد الاوحد في العالم، كما يحاول البعض الايهام. فلكل شعب تجربته المريرة وضحاياه وعذاباته. ففي جنوب افريقيا مثلا كان يجب على السود (وهم الأغلبية واهل البلد الاصليون)، الحصول على اذن خاص للانتقال من منطقة الى اخرى، فضلا عن تعرضهم للقتل الجماعي والاعتقال والتعذيب. وذاق الشعب الجزائري عبودية المستعمر مدة تزيد على المائة عام ودفع حياة مليون شهيد ليتحرر من الاستعمار الذي كان مستعدا للتفاوض في النهاية بأي شكل من الاشكال لتأمين بقائه. أليس في هذه الدروس التاريخية عبرة لدعاة التقسيم والتفتيت والطائفية؟ أم ان نظرتهم الى التاريخ انتقائية حيث يختارون منه ما يغذي الطائفية ويهملون كل ما له علاقة بنضال الشعوب ضد الاحتلال؟
ان القبول بالتقسيم الطائفي والعرقي والديني وعدم مواجهته بكل اشكال المقاومة هو انجاح للمشروع الاستعماري الصهيوني ولن يوفر لاحد وطنا، سواء كان سنيا او شيعيا أو مسيحيا، عربيا او كرديا او تركمانيا، بل سيؤسسون دويلات التناحر وتصفية الحسابات والفرهود.