Monday 7 January 2013

الهزيمة الامريكية في العراق ليست انتصارا بعد

28/10/2011
 أكد الرئيس الامريكي باراك اوباما، في 21 تشرين الاول/ اكتوبر، بأن آخر جندي امريكي 'مقاتل' سيغادر العراق في نهاية العام الحالي حسب الاتفاقية الامنية التي تم توقيعها بين نظام نوري المالكي والرئيس السابق جورج بوش في نهاية ولايته عام 2008. ويأتي تنفيذ الاتفاقية على الرغم من الإدارة الأمريكية لاسباب عدة داخلية وخارجية.
السبب الاول ان غزو العراق واحتلاله او ما يطلق عليه الامريكان مصطلح 'الحرب في العراق'، لم يسر كما اشتهت الادارة الامريكية وكما كان المخطط المرسوم في مكاتب انيقة ذات تقنية تكنولوجية عالية، في واشنطن ولندن، وبمساعدة عراقيين تبرعوا بتقديم الافكار والاقتراحات حول كيفية تنفيذ الغزو باعتبارهم متمرسين 'بفهم' طبيعة الفرد العراقي.
يومها قالوا لجورج بوش وفريقه الباحث عن الوجه العراقي للغزو، وبصوت 'البروفسور' كنعان مكية: 'العراقيون سيستقبلونكم بالازهار والحلوى'، أي تفضلوا وادخلوها آمنين.
فكانت النتيجة ان رمى العراقيون قوات 'التحرير' بالقنابل اليدوية وزرعوا طرقهم بالالغام، منذ الايام الاولى للاحتلال ولايزالون مستمرين، ليقتلوا الآلاف من قوات الاحتلال وليجرجر جيش الغزو مئات الآلآف من الجنود المعطوبين عقليا وجسديا الى بلدهم امريكا، ليكلفوا المواطن الامريكي الموعود بالنفط والاستثمار، تكلفة اقتصادية هائلة تعتبر (مع الحرب على افغانستان) من الاسباب المؤدية الى الانهيار الاقتصادي الحالي، تاركين في الوقت نفسه البروفسور وامثاله مصابين بخيبة أمل في موقف المواطن العراقي 'الناكر للجميل'، وكأن بديهية مقاومة الغزاة، وهو فعل الدفاع عن البقاء والكرامة، يحتاج الى درجة أكبر أو أقل من بروفسور او مفكر لفهمها.
من هنا نستخلص بان جلاء قوات الاحتلال المقاتلة واغلاق معسكراتها هو الهزيمة التي دفعت باتجاهها وحققتها المقاومة العراقية التي دفعت ثمنا غاليا لاجبار المحتل على الجلاء وفي الوقت نفسه اجبار المتعاونين معه على استعارة الخطاب الوطني. اذ أدرك المتعاونون، بعد مايقارب التسع سنوات على تسلم الحكم، ومحاولات التقسيم الدينية والطائفية، ومساندة اكبر قوة عسكرية في العالم فضلا عن الدعم الرسمي الايراني وتوفر اكبر ميزانية مالية في تاريخ العراق الحديث، وصرف الملايين على التزييف والتعتيم الاعلامي، بأن لا جذور لهم في ارض العراق وانهم فشلوا في استقطاب المواطن كحليف فاعل في مخططاتهم. لذلك، برزت على السطح وضمن النزاعات اليومية بين ساسة العملية السياسية، مزايدات الوطنية لمواجهة غضب المواطنين على جرائم المحتل المفضوحة مما دفعهم الى المطالبة برفع الحصانة عن قوات الاحتلال ومرتزقته مهما كانت مسمياتهم كمدربين او مساندين او مستشارين. وهو مطلب ضمن لنظام المالكي مظهر المدافع عن سيادة العراق (حدود العراق منتهكة حاليا من ثلاث دول على الاقل) وان كان، في الحقيقة، يتفاوض، على توقيع اتفاقية جديدة حول بقاء 'المدربين' الامريكيين وغيرهم بسرية مماثلة لمفاوضات الاتفاقية الامنية السابقة. وقد حظيت فكرة الاتفاقية الجديدة بمباركة التيار الصدري المعلنة (مع بعض التحفظات والإستثناءات كما في الصفقات السابقة) ومباركة بقية 'الكيانات' بشكل يماثل استحياء فتاة على وشك الزواج.
ولكن، في الوقت الذي نتحدث فيه عن هزيمة المشروع العسكري الامريكي في العراق، علينا ان نذكر انفسنا بان هزيمة العدو لا تعني الانتصار بمعنى التحرير الكامل والشروع ببناء الدولة الوطنية. فالعراق، الآن، أرض خراب من ناحية البنية التحتية واستشراء الفساد ومحاولات التفتيت وقتل روح المبادرة وتواجد سدنة للمعابد معروضين للاستئجار. علينا ان نذكر انفسنا بان امريكا لاتزال امبراطورية ذات قوة على الرغم من ازمتها الاقتصادية واستنزافها العسكري وتصاعد حركات الاحتجاج فيها، بل بالعكس قد تؤدي هذه العوامل الى استشراسها في استخلاص 'انتصارات' خارجية لاشغال الرأي العام الامريكي، خاصة، في مرحلة الاستعداد للانتخابات الرئاسية. علينا ان نذكر انفسنا، بأن أمريكا تمتلك، بالاضافة الى القوة العسكرية وحرية استخدامها في قواعد دائمة تتجاوز المئات في جميع انحاء العالم، أذرعا اخرى تم تطويرها بقوة في العقدين الاخيرين لا ليحلا محل القوة العسكرية بل ليكملاها كمستوى من مستويات اساليب الهيمنة ، خاصة بعد هزيمة العراق التي باتت درسا عسكريا مهما وحافزا لاعادة هيكلة الجيش الامريكي نفسه، مع تطور مفاهيم محاربة الارهاب والتمرد، وباعتراف قادة البنتاغون.
ان النيوكولونيالية الامريكية، في مرحلة جلاء القوات العسكرية، ستتجلى باشكال القوة الناعمة التي رأينا تطبيقات بعضها، في الاعوام الماضية، كما في مشاريع فرق الجيش الامريكي الهادفة الى 'تعزيز الاواصر' مع 'الشعب المضيف' وتقويته لمحاربة 'المتمردين' من خلال المشاركة في مشاريع تجارية ومنح عقود خدمة الجيش الامريكي وفرق 'الاعمار' الوهمية وتأهيل نساء الاعمال ودعم منظمات مجتمع مدني وورشات عمل مشروطة. بعض هذه التطبيقات تم نقلها الى مسؤولية السفارة الامريكية في المنطقة الخضراء ببغداد، وهي الاكبر في العالم ، كما هو معروف من ناحية المساحة والتسلح والكادر الوظيفي الذي يضم ادارة عسكرية (بزي مدني) ومخابراتية مشتركة، ويتمتع بالحصانة الدبلوماسية، وبامكان الادارة الامريكية زيادة اعداد العاملين فيها متى شاءت وكيفما شاءت للالتفاف حول الغاء الحصانة للعسكريين.
وما ستعجز السفارة عن اكماله او تغطيته من مهام، ستقوم القنصليات الموجودة في المدن الاخرى بالاشراف عليه، وكل ذلك وفق اتفاقية الاطار الاستراتيجي الشاملة والمفتوحة بلا زمن محدد والتي ستمنح امريكا الغطاء القانوني المطلوب للهيمنة على الاقتصاد والسياسة والمجتمع المدني والثقافة والتعليم لأعداد 'قياديين' جدد تحت مسمى 'التعاون' المبني على اكذوبة التكافؤ ما بين البلد المحتل والبلد الخاضع للاحتلال.
من الناحية العسكرية، علينا ان نذكر انفسنا، ايضا، بما قاله الجنرال اوديرنو، الآمر العسكري السابق لقوات الاحتلال، عندما سئل في مؤتمر صحافي عما اذا كان الانسحاب سيهدد ما حققته امريكا من 'نجاحات'، فاجاب بانه ليس قلقا من هذه الناحية، فالقوات الامريكية موجودة على مبعدة بضع دقائق فقط في القاعدة المركزية في قطر. وعند سؤال الجنرال دافيد باترياس، الآمر السابق في العراق سابقا ورئيس وكالة المخابرات الامريكية السي آي أي حاليا، عن الوضع المرغوب في العراق، اجاب بانه الوضع المتصف بـ 'العنف المستديم'. ولتعيين الجنرال باترياس رئيسا للمخابرات الامريكية دلالة مهمة عن التقارب الهيكلي بين الجهازين الاساسيين في الادارة الامريكية قد ينعكس على تنفيد المهام الخارجية بشكل متكامل. وهنا علينا ان نتذكر، بان تنفيد المهام الضرورية ضمن السياسة الخارجية لم يعد مقتصرا على الغزو العسكري المباشر، كما حدث بالعراق، بل بات يعتمد على تجميع المعلومات الاستخبارية ومن ثم تنفيد عمليات القصف الجوي والاستهداف بواسطة الطيارات بلا طيار او ارسال فرق العمليات الخاصة السريعة للتخلص ممن يصفونهم بالارهاب. نعم لقد تقلصت قدرة الأمبريالية على التحكم بالأحداث، وتعاظمت مجالات تقدم قوى التحرير والعدالة ، لكننا يجب الا نستهين بقدرات العدو. والاهم من ذلك كله، علينا ان نتذكر بأن صورة المحتل قد تتغير الا ان جوهره يبقى واحدا وهو الهيمنة على مصادر الثروة واستغلال الشعب ومده، باحسن الاحوال، بلقمة العيش الكافية لابقائه محصورا في دائرة الهموم المعيشية والصحية، تستهلكه التفاصيل فلا يعود قادرا على رؤية الصورة الشاملة. ان فهم الصورة ومرونة العدو على تغيير جلده، لا يعني كما يريد دعاة القبول بالامر الواقع، اثباط العزيمة بل وبالدرجة الاولى فهم الواقع من اجل تغييره، وهذا التغيير لن يتم الا من قبل العراقييين أنفسهم
.