Sunday 1 July 2007

أغنية المقاومة العراقية سلاح يخيف المحتل

30/06/07
لقد ادركنا، منذ أيام الاحتلال الاولي، ايام نهب وحرق وتهديم كل رموز الحضارة والثقافة، بان جوهرخطاب الاحتلال هو استهداف كينونتنا الثقافية والحضارية: تاريخنا، الذاكرة الجماعية، القيم، اساليب التعبير وطرق الحياة. لذلك ولدت المقاومة الثقافية كعنصر اساسي في مقاومة الشعب العراقي والمتضمن المقاومة المسلحة والسياسية وديمومة الحياة والمجتمع الاهلي. وتحمل المقاومة الثقافية في صميمها كفاح العراقي لمواصلة الحياة والابداع والاحتفال بالمخيلة علي الرغم من كل الصعوبات. انها تعني ايضا مقاومة السيطرة السياسية والاشتراطات والاغراءات المادية التي تكرس هيمنة المحتل وثقافته. وعلي الرغم من نجاح الاحتلال في اسكات الاصوات العراقية المعروفة في مجالات الصحافة والغناء والفن والشعر، في داخل العراق، اما عن طريق التصفية الجسدية او التهديد او الترحيل قسرا فان اصواتا جديدة واشكالا جديدة تمثل المقاومة الثقافية قد برزت، لتثبت قدرة العراقيين علي ابداع طرق واساليب جديدة لتحدي ومقاومة المحتل. ويصف الشاعر سعدي يوسف اسكات الاصوات المستقلة الثقافيه بالقوة والتهديد والقتل، بانه (رقابة الرصاصة، حيث يهيمن الاستعمار الثقافي الي جانب الاستعمار الاقتصادي والعسكري). بمواجهة نمو مختلف اساليب المقاومة الثقافيه للتأكيد بانه خلافا لما يريد المحتل اقناع العالم به: ان الهوية العراقية الوطنية الغنية بالحضور الديني والاثني المتعدد، متجذرة في تاريخنا، وهي جزء من اعتزازنا بوجودنا التاريخي الذي قدم اسمي الانجازات علي كافة الاصعدة. تقول جوان جارا زوجة المغني السياسي التشيلي فكتور جارا الذي قتل يوم 11 سبتمبر، 1973 اثر الانقلاب العسكري المخطط من قبل السي آي أيه، بعد تكسير يديه لكي لايعزف علي الغيتار: (لقد قتلوه الا انهم لم يستطيعوا قتل اغنيته). وقد حدثني بروفسور الانثربولوجيا نيكولاس هوبكنز، مؤخرا، عن الثورة الاشتراكية في ميونيخ في اعقاب سقوط الامبراطورية الالمانية عام 1918، حيث سيطر الاشتراكيون علي الحكم لعدة اشهر. وكان العديد من الكتاب قد ساند الثورة ومن بينهم ماريا ريلكه والمسرحي برتولت بريخت واوسكار غراف الذي كتب مذكراته فيما بعد قائلا بان كل ثورة بحاجة الي اغنية ولان هذه الثورة بلا اغنية اتوقع ان تفشل. وكان مصيبا في توقعه. وجرنا الحديث الي المقاومة العراقية، فهل للمقاومة العراقية أغنية؟ نعم، فاغنية المقاومة هي رأس الحربة، لأنها الصيغة الجامعة بين الكلمة / الشعر والموسيقي، وكلاهما من فنوننا الاصيلة. كما انها تتميز بشعبيتها وسهولة ايصالها وتلقيها من قبل الجماهير، وبالتالي استحالة حظرها ومنع انتشارها وايجاد الضد لها. كما اثبت المغني العراقي، بخلاف بعض السياسيين والصحافيين و(الثقافة ـ قراطيين المعروضين للاستئجار)، بانه من الصعب توظيفه للغناء مباشرة لصالح الاحتلال. وقد ادركت سلطة الاحتلال مبكرا خطورة اغنية المقاومة عليها وعلي حكومات الميليشيات الطائفية. حيث لاحظ تقرير فريق الازمات في الشرق الاوسط لعام 2004، ان (اعدادا متزايدة من العراقيين غير الراضين عن الولايات المتحدة وقادتهم واليائسين من سوء احوالهم المعيشيه، يجدون العزاء في عالم يجسد الورع والمقاومة البطلة. حيث بالامكان العثور علي الأسطوانات التي تذكر مآثر (التمرد) بسهولة في جميع انحاء البلاد، وكذلك الاغاني الجديدة التي تمجد المقاتلين، واستردت القصائد المكتوبة منذ عقود خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الأولي وتحت الاحتلال البريطاني شعبيتها ورواجها. مثال ذلك قصيدة معروف الرصافي التي كتبها عام 1941 عن الفلوجة. وتنتشر اشرطه فيديو (المتمردين) علي نطاق واسع في المساجد ومتوفرة في معظم المخازن في بغداد). وخلافا لما هو شائع فان (الاسلاميين التكفيريين) لم يكونوا اول من هاجم مخازن بيع اشرطة الموسيقي واقراصها بل كانت قوات الاحتلال الامريكية وحسب تقارير نشرت في صحيفة اللوموند في شباط 2004، هي المبادرة في مهاجمة المخازن وحرقها واعتقال اصحابها بل واختفاء عدد منهم بعد ان انتشرت الاغاني بعد العدوان الدموي علي الفلوجة بين الشباب. وليس مستغربا ان تقوم القوات باستئجار عصابات تقوم بتنفيذ مايطلب منها. وفشلت محاولة منع الاغاني بل وازدادت شعبيتها خاصة بين الشباب بسبب المنع. ودفع ارهاب الاحتلال العديد من المغنين والموسيقيين اما الي الاختفاء او الهرب، بينما عمل جهاز الدعاية والاعلام الامريكي علي اشاعة بان المغنين قد منعوا وهددوا وقتلوا من قبل (الاسلاميين المتطرفين). وقد برر دان سنور الناطق باسم الاحتلال الهجوم والمداهمات علي مكاتب الصحافيين والمكتبات ومحلات الموسيقي قائلا: (ان اي تعبير عام يحرض علي العنف ضد الائتلاف ممنوع منعا باتا). هكذا تم توفير الغطاء القانوني لمنع الغناء وقتل المغنين في (العراق الجديد). وقتل ما لا يقل عن 75 مطربا منذ نيسان (ابريل) 2003 . وتنبع اهمية اغنية المقاومة او خطرها من جمعها ما بين الموسيقي التقليدية والقصيدة فضلا عن الاساليب المختلفة للغناء والشعر والاستخدام المبتكر الجديد للالة الموسيقية. حيث تزاوج الاغنية بين المقام العراقي المستخدم من قبل قراء المقام والمنشدين بشكل ديني في المنقبة النبوية وحلقات الذكر الي البستة واغاني البوب الشعبية الشبابية، ومن التراتيل الجماعية بالطريقة الصوفية الي الغناء البدوي وتراتيل العزاء الحسيني وهي أنواع قريبة في ايقاعها. وتختلف مصاحبة الالة الموسيقية ونوعية الانتاج حسب مكان الانتاج اذا ما كان في داخل العراق ام خارجه، وان اصبح معظم الانتاج في الاونة الاخيرة خارج العراق. ان انجح اغاني المقاومة واكثرها انتشارا هي التي تستخدم اسلوب الترتيل في المنقبة النبوية او المديح النبوي المرتبط بالحضور الاسلامي، يؤديه مغني او منشد بمصاحبة فرقة من المنشدين قد لايزيد عدد افرادها علي الاربعة وتقتصر الالات الموسيقية علي الدفوف الكبيرة او الرق. واسباب انتشارها: ارتباطها التاريخي بالذاكرة الجماعية ووجدانيتها المؤثرة. ان كل عراقي سواء كان متدينا او غير متدين يتذكر بشوق وحنين تراتيل المنقبة النبوية وصلاة العيد. ولعل ارتباطها بمناسبات مفرحة هي المولد النبوي والاعياد يزيد من قوتها خاصة في الفترة المظلمة حاليا اذ تعيد الي الاذهان ذكري الفرح المفتقد. كما ان التراتيل الاسلامية هي اسلوب تعبيري يتجاوز التفرقة الطائفية والعرقية في العراق وكذلك الحدود وهو شكل راسخ عميقا في الثقافة العربية الاسلامية. وينظر الي الجمع ما بين اللغة العربية وشكل الترتيل الاسلامي في اغنية المقاومة ضمن الصورة الاشمل وهي الحاجة الي تثبيت الهوية العربية الاسلامية التي يشعر العراقيون بانها مهددة تحت الاحتلال. وبالتالي تنامي الحاجة الي الوحدة الوطنية لمواجهة خطر الهيمنة وخطط التقسيم والتجزئة. بحجة تفكيك العراق الي مكوناته الاصلية. كما ان مرونة الشكل الموسيقي وبساطته تجعله مطواعا للغناء وحسب اي قصيدة مختارة، بالاضافة الي سهولة الحفظ والترداد والانتشار. ويعتبر المغني صباح الجنابي الذي غني عن المقاومة في الفلوجة من اشهر مغني هذا النمط. وقد تبعه آخرون بنفس الاسلوب بثيمات تلهم الشعب وتحث علي المقاومة والدفاع عن الوطن والاحتفاء بالتراث والتمسك بالهوية والدين والوطن، والعيش بكرامه ورفض عبوديه الغزاة. وغالبا ما يلجأ المغني الي استخدام رموز واستعارات وطنية تجمع بين الناس وتوحدهم مثل النخلة ونهري دجلة والفرات والجبال. ولايعبر المغني عن المعاناة والذل تحت الاحتلال فحسب بل ايضا عن أمل وتطلعات وروح المقاومة. ولاتتاح الفرصة لهذه الاغاني للبث والعرض التلفزيوني بل يمكن العثور عليها داخل العراق خفية (مثل تهريب السلاح والعتاد) وعلي الانترنت أو لهاتف النقال او محفوظة عن ظهر قلب. ان الرمز الاسمي لوحدة العراق والهوية الوطنية هو مدينة بغداد، مدينة السلام، حاضرة الثقافة والانجازات الانسانية. انها القلب الذي يمد الثقافة العراقية بالحياة. لذلك نادرا ما نسمع اغنية لا تشير الي بغداد. وغالبا ما تصور بغداد في اغاني المقاومة كشابة وأم وطفلة تتوسل الدفاع عن كرامتها وشرفها ضد اعتداءات الاحتلال الهمجيه لمغول القرن الحادي والعشرين. ولعل افضل مثال علي ذلك اغنية بغداد لحسام الرسام التي يمزج فيها بين الاغنية الشبابية والتراتيل الصوفية وعزاء عاشوراء ليصور مأساة بغداد، التي ينتقل صوتها من الشابة الي الام الي الطفلة وبصوته بالعامية وبمجموعة المنشدين بالفصحي منادية اهلها ان يدافعوا عنها، ويختم الاغنية بنبرة أمل بان تحيي بغداد حتي الذكريات الميتة. يبدأ الكورس الغناء بالفصحي قائلين (سمعت بغداد تناشدني) فيجيبهم المغني بالعامية (ماخذها الخجل تسألني عالناس). ثم يأتي صوت بغداد كطفلة بشخص سكينة ابنة الشهيد الحسين مطالبة بالحماية كما كان عمها العباس يحبها ويحميها. بغداد ايضا هي ام الكنائس والمآذن المستهجنة تدنيس ارضها وتغيير جلدها والاستهانة بحياة ابنائها، الصارخة بحرقة مناشدة (أما من ثائر يأخذ بثأري/ ويداوي الجرح ويرفع الراس). اما خضير هادي فيغني شارحا حال بغداد ورموزها: (معروف الرصافي اتطوقه دبابات / خلو بالطريق اسلاك يابو اسلاك/ وبغداد الحبيبة لبسوها أسوار). ولاينسي صباح الجنابي في اغنيته المشهورة عن الفلوجة (طكت جيلات البرنو والمدفع ثار) نداء بغداد لاهلها: (صاحت بغداد الحرة وين أهلي) ويعدها (احنا سور لبغداد وابد ما نهاب). ولعل اكثر اغاني كاظم الساهر تأثيرا هي قصيدة فاروق جويدة: (أطفال بغداد الحزينة يسألون/ عن أي ذنب يقتلون). واجدني هنا اقول لمن يسأل عن اغنية المقاومة العراقية، نعم انها موجودة نحميها في دواخلنا لانها روح المقاومة والكرامة وعزة النفس، وأقول لاولئك الذين ينكرون علينا حق المقاومة الاخلاقي والشرعي: اسمعوا أغانينا