Sunday 1 June 2008

مفهوم السيادة في ظل احتلالات العراق المتعددة

2008/03/02

تنبع في ظل الاحتلال العسكري الحاجة الي تأكيد بعض المفاهيم التي يفترض، في الاوقات العادية، انها ليست بحاجة الي تأكيد او تعريف، لانها واضحة وضوح الشمس ووضوح الحاجة الي استنشاق الهواء. انها مفاهيم تطبيقية وتشريعية تحمل معاني عريقة متفقا عليها عالميا ولاتقبل الشك. ومفهوما الاستقلال والسيادة هما أول ما يقفز في وجه كل امريء يرغب بالكتابة عن العراق المحتل وما يجري فيه من كوارث وانتهاكات. فلننظر لهذا الأمر من ناحيته العملية المعاشة.فعلي الرغم من ان ارتباط الحكومات المحلية بالاستعمار، واطلاق صفة السيادة والاستقلال عليها، ليس حدثا فريدا من نوعه ولايقتصر علي العراق المحتل دون غيره من الدول التي ذاقت طعم الاحتلال عبر العصور، الا ان مفهوم (سيادة) العراق، تحت الاحتلال، يستحق البحث لانه البلد الذي ارادته الامبراطورية الامريكية نموذجا لتوسعها في الدول العربية والاسلامية، ولأن ما بدأ كاحتلال عسكري بقيادة امريكا قد تحول، خلال السنوات الخمس الاخيرة، الي احتلالات متعددة أو مركبة. ضيعت، لفرط تعددها، حتي الاحزاب والمجموعات التي رافقت الاحتلال، بداية، متصورة أما عن اقتناع او سذاجة بان بامكانها رسم خطوط حمراء، ستزيح المحتل الانكلو امريكي الصهيوني، بعد ستة أشهر من (التحرير)، وأن تحالفها مع المحتل مؤقت وفقا لتقاطع مصالح براغماتي. نتيجة لذلك مر مفهوم (السيادة) في العراق منذ الغزو في عام 2003، حتي اليوم حيث نشهد دخول قوات غزو عسكري جديد اليه عبر حدوده الشمالية، بأدوار استحالة كبيرة حولته من شكل الي آخر، حتي لم يعد بالامكان التعرف عليه. فقد شرع المحتل، بداية، بوصف الاحتلال العسكري، بانه تحرير. ولم يكن النعت جديدا، اذ استخدمه الجنرال مود عندما دخل جيش الامبراطورية البريطانية بغداد في عام 1917 . كما ان مفهوم (الاستقلال) نال حظه من السخرية، ايضا، عندما كتبت الآنسة جرترود بل، سكرتيرة المندوب السامي البريطاني، واصفة كل من يناهض الاحتلال البريطاني بانه متطرف وان (الاستقلال التام) مصطلح غبي يتمسك به متطرفو بغداد بالتحديد! والمعروف أن مباديء السيادة تفترض وجود دولة نشأت تاريخيا بمؤسساتها المترابطة، تكون ذات قرار ذاتي لا يخضع لدولة أخري، صديقة كانت أم عدوة أم منافسة، وان يكون لهذه الدولة سلطتها علي ارضها، وتتمتع بالشرعية المعتمدة أما علي قوتها الذاتية المكتسبة عبر الزمن أو عبرالتقاليد المحلية والقانون. فأين مفهوم السيادة، اليوم، في العراق المحتل؟ لقد انتقل هذا المفهوم من دور العدم عند بدأ الأحتلال الي دور استحالته الثانية يوم 30 حزيران (يونيو) 2004، عندما قام الحاكم الامريكي للعراق بول بريمر بتسليم السيادة، المقيدة بمائة قانون وبمستشارين بريطانيين وامريكيين وآخرين ممن خدموهم بذل مثل موفق الربيعي، تسليمها الي اياد علاوي بتاريخه المخابراتي الذي يتباهي به. ولم يذع خبر تسليم (السيادة) الا بعد رحيل بريمر الهارب ليلا، خوفا علي حياته في فترة كانت فيها مقاومة الشعب العراقي الباسلة تتعاظم كل يوم وكل ساعة. واستلم علاوي (السيادة) ليصبح الدرع الحامي لقوات الاحتلال التي لم ترحل، كما قد يتبادر الي اذهان من يظنون ان السيادة تعني التخلص من قوات الاحتلال، ولينفذ كل المطلوب منه سياسيا وعسكريا. وكان من بين منجزاته التي لا تنسي اعلانه الاحكام العرفية في العراق والمساهمة الفاعلة في الهجوم البربري علي مدينة الفلوجة، فاستحق بجدارة لقب جزار الفلوجة. وفي ظل التمتع بهذه السيادة، قامت قوات الاحتلال ومترجميها وعملائها بتعذيب واغتصاب رجالنا ونسائنا واطفالنا في ابو غريب وبوكا وكروبر وبقية المعتقلات المتناثرة في طول البلاد وعرضها. وتعلم عسكري الاحتلال الا يقف الا وجزمته علي رأس مواطن عراقي ممرغ الوجه في التراب، كما تعلم ان يصور امتهان كرامة العراقي لينشرها كصور واشرطة فيديو. وفي ظل هذا النوع من السيادة انتشر المرتزقة ومستخدمو شركات الحماية، من جميع انحاء العالم، ليقتلوا اما للتسلية او لان احد المواطنين تجرأ واقترب من سياراتهم، وصار القتلة يسرحون ويمرحون في دماء ابناءشعبنا. ومع فساد الاحتلال وارهابه تناسلت احزاب الاحتلال ومنظماتها وميليشياتها وفرق الموت والقتلة من الوزراء والمسؤولين واللصوص وعصابات الخطف والابتزاز. وأصبح الاحتلال مضاعفا: القوات العسكرية النظامية، وقوات المرتزقة الأجانب، وقوات المليشيات القادمة من الخارج، وقوات الاجرام التي تتخلل كل تلك. ثم انتقل مفهوم السيادة الي استحالة جديدة في أيلول (سبتمبر) الماضي عندما شرعت القوات الايرانية بقصف مناطق قلعه دزه وحاج عمران وقضاء بنجوين بحجة وجود احزاب كردية من ايران مناوئة للسلطة الايرانية في هذه المناطق وقصفت تركيا مناطق متعددة بالمدفعية الثقيلة في قضاءي زاخو والعمادية وبشكل عشوائي، مما سبب قتل عدد من الضحايا المدنيين. ولم تحرك قوات ( الجيش العراقي) التي يتفاخر الناطق باسم الحكومة بان عددها قد وصل 600 ألف، فضلا عن قوات البيشمركة الخاصة بحماية الاقليم الكردي افتراضا، ساكنا. واكتفي سياسيو الاحتلال، عربا وكردا، علي اختلاف طوائفهم والوانهم، بابداء القلق والاستنكار وكأن القتلي من العراقيين الاكراد ينتمون الي قارة بعيدة لا تستحق غير ذلك. ولسنا بحاجة الي التذكير بأن كل القرارات والقوانين الصادرة من قبل حكومات الاحتلال وما يسمي بالبرلمان انما تمت اما بعد (زيارة مفاجئة) من مسؤول امريكي كبير او بعد اتصال عبر الاقمار الصناعية من قبل بوش، وحتي تشكيل حكومة المالكي نفسها تم بعد فرك أذنه عبر الاقمار ايضا. اما حين ننظر الي علاقة ايران وتركيا بالعراق المحتل فاننا سنجد ان مفهوم السيادة، بعد استحالاته العديدة، قد أصبح بعيدا عن فهم أي انسان سوي. فها هو وزير الخارجية الإيراني منوشهر متقي يخبرنا بانه لم يتم بعد تحديد موعد جولة المحادثات الجديدة مع الولايات المتحدة حول العراق، وكأن العراق ملك خالص لايران وامريكا. بينما تتقدم القوات العسكرية التركية في عمق الاراضي العراقية لتقصف وتهدم بلا دفاع او مقاومة علي الرغم من وجود حكومتين من المفترض انهما تحميان المنطقة وهما حكومة المالكي وحكومة الاقليم. واكد وزير الدفاع الامريكي روبرت غيتس ان تركيا لم تقدم جدولا زمنيا واضحا لانهاء عملياتها العسكرية في شمال العراق ، الا ان وزير الدفاع التركي وجدي قونول طمأن الحكومتين (المنتخبتين) في العراق بان القوات التركية سوف تنسحب حينما تنجز مهمتها لمكافحة متمردي حزب العمال الكردستاني. بينما أكدت الناطقة باسم السفارة الامريكية، في بغداد، ان الولايات المتحدة تعتبر تركيا حليفا مهما لها في المنطقة.لقد شاركت قيادة الحزبين القوميين الكرديين، لعقود طويلة، في تفتيت مفهوم السيادة الوطنية عبر فصل نضال الشعب الكردي عن نضال الشعب العراقي بمجموعه لتثبيت الديمقراطية، وعبر المتاجرة بالحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي، وعبر النزاعات الطاحنة فيما بينها، التي ادت الي حرب اهلية حصدت حياة آلاف الابرياء وعبر الفساد المستشري الي حد النخاع في ادارة الاقليم المقسمة بين مسؤولي الحزبين. كما أدي موقف القيادتين الحرباوي، المتقلب، من حزب العمال الكردستاني الي التباس الصورة حول مفهوم نضال الشعب الكردي عموما، فضلا عن الانخراط في الحكومات القمعية في بغداد نفسها مقابل الامتيازات، الي الأشتراك مرة بعد أخري مع القوات الأيرانية ضد الجيش العراقي، وبالعكس، ومع القوات التركية ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني، ثم مؤخرا كشريك في حكومة المنطقة الخضراء. وكان رد فعل قيادة الحزبين تجاه الغزو التركي متفاوتا فبينما اختار الطالباني الصمت، ليغطي، كما يدعي البعض علي تأييده للغزو، فضل البارزاني اسلوب العرائض فكتب رسالة الي الرئيس الامريكي بوش، بينما شهرت حكومة الاقليم بالحكومة المركزية كونها لا تدافع عن أراضي العراق، وكأن الحكومتين ليستا وجها لعملة واحدة. وقد بينت سنوات الاحتلال، بوضوح، ان الحديث عن مفهوم السيادة من قبل (الحكومة المركزية) و(حكومة الاقليم) لايزيد عن كونه اجترارا لفظيا، لامعني له، ومتاجرة لن تنجح في خداع ابناء الشعب العراقي. ان مآسي الأكراد في حرمانهم من كيانهم القومي وتطورهم الطبيعي توازي مآسي العرب في تقسيم بلدانهم وتنصيب النخب المتواطئة الفاسدة عليها. لكن الشعوب تبدأ من واقعها الشرعي الآني، في الكيانات الدولية الثابتة الآن، والتي لا يمكن تغييرها الا عبر تطورات تاريخية بين الأمم وتتطلب قبل كل شيء إستعادة سيادة القرار الوطني في كل بلد.