Sunday 22 February 2009

لماذا لا تدافع 'حكومات' العراق عن مناطقها الحدودية؟

19/01/2009
قصفت المدفعية الإيرانية يومي الثلاثاء والاربعاء الماضيين عدة قرى تابعة لمحافظة السليمانية في اقليم كردستان العراق. كما قامت الطائرات الحربية التركية بقصف المناطق الحدودية في دهوك، يوم الخميس الماضي، بصورة كثيفة. ومرت عمليات القصف والاعتداء هذه، كما مرت العشرات من قبلها، مرور الكرام وحسب رغبة الحكومتين التركية والايرانية وحتى بدون التصريح عن تفاصيل العمليات من قبل أي من الجهات.
مع العلم، وهنا المفارقة، ان هذه القرى وغيرها من المناطق التي ذاقت طعم القصف وتهديم البيوت وحرق البساتين، يفترض بانها محمية من قبل حكومتين 'ذواتي سيادة' وليس حكومة واحدة: الأولى وهي المسماة بالحكومة المركزية أو العراقية والثانية هي المسماة حكومة الاقليم في 'العراق الفيدرالي الديمقراطي'، التي لا تزال مقسمة في ظل جناحين في قواتها الأمنية، احداهما مسؤولة عن السليمانية والثانية عن دهوك وأربيل. وكلا 'الحكومتين'، المركزية والمحلية، لا تكفان عن تأكيد تمتعهما بالسيادة والتفاخر بقواتهما العسكرية والأمنية فضلا عن نزاعهما حول حدود 'سيادة' كل واحدة منهما ومحاصصة الميزانية العسكرية الكبيرة لتجنيد قواتهما العسكرية والأمنية، الخاصة والعامة، من البيشمركة الى الصحوة وقوات الاسناد ومستخدمي الشركات الامنية، من عراقيين واجانب، وكل من دب على الارض مرحا.
وكان 'رئيس جمهورية العراق' جلال الطالباني، قد قدم للعالم درسا جديدا في معنى السيادة والاستقلال عندما حضر، يوم 5 كانون الثاني/يناير، افتتاح السفارة الامريكية في المنطقة الخضراء ببغداد، التي وصفتها محطة 'فوكس نيوز' الأمريكية بانها 'أكبر من دولة الفاتيكان ومقر الامم المتحدة في نيويورك. وان مجمع السفارة يتسع لألف موظف ويحتوي على 27 مبنى بارتفاع 4 - 5 طبقات تتخللها مساحات خضراء وملاعب ومسبح وقاعة للرياضة ومناطق ترفيهية اخرى، وبهذا يعد اكبر عشرة اضعاف من اية سفارة اخرى لامريكا في العالم'. ولم يكتف الطالباني بحضوره الضخم بل وابدى للجمع المحتفي من قوات الاحتلال وعملائه مقدار سروره، واصفا السفارة بانها صرح حضاري، وان 'تشييد الولايات المتحدة الامريكية صرحا كبيرا لسفارتها في بغداد هو تعبير لعمق الصداقة بين الشعبين العراقي والامريكي'، مزايدا على تابع الاحتلال الآخر نوري المالكي الذي اعتبر انتقال سلطة الاحتلال من مبنى القصر الجمهوري الفقير بالمقارنة مع السفارة الجديدة ورفاهيتها وتحصيناتها، ' لحظة تاريخية واستعادة لسيادة العراق' وأنه كان في انتظارها 17 عاما، ربما من تاريخ مغادرته العراق، مذكرا العراقيين أن أمريكا هي المحررة والصانعة للتاريخ. وكأن دول العالم الاخرى بلا سيادة او محرومة من 'عمق الصداقة'، لانها لم تتشرف باحتضان مبنى للسفارة الامريكية يماثل رمز الاستعمار الجديد الجاثم على صدورنا. وكان لوجود مجرم الحرب ومخطط عمليات الاغتيال والتصفية الجسدية نائب وزيرة الخارجية الامريكية جون نغروبونتي، في حفل الافتتاح، اشارة خاصة لتذكير الحاضرين بمصير كل من يعصى اوامر سيده. 
ومن المعروف ان قصف الطائرات الحربية مناطق بلد آخر هو عدوان وخرق للسيادة بكل المقاييس القانونية والمعاهدات والاتفاقيات الدولية. فلماذا تقبل 'حكومتا' المركز والاقليم القصف المستمر على قراها ومناطقها ولا تحاول، ولو من باب ذر الرماد في العيون، الدفاع عن 'سيادتها' بكل الطرق الممكنة؟ 
هناك احتمالات اربعة. الاحتمال الاول هو ان مسؤولي 'الحكومتين' لا يفهمون معنى السيادة، والا كيف بالامكان وصف افتتاح حصن منيع في قلب العاصمة، وهو مؤشر واضح على من يمتلك السلطة الحقيقية في البلاد، بانه تسليم للسيادة؟ الاحتمال الثاني هو ان كلا من مسؤولي 'الحكومتين'، وحسب المثل العراقي الشعبي 'يحود النار لخبزته'، أي يدفع النار باتجاه رغيف خبزه الخاص به لوحده فقط ولا يهمه ما يحدث للآخرين، وقد بات هذا الموقف هو الاساس الذي تتصرف وفقه الاحزاب والتنظيمات الطائفية والعرقية النابعة من نطفة الاحتلال والذي تحاول، من خلاله وعبر المخصصات والفساد المالي والاداري، بناء قاعدة شعبية لها. والا ما الذي جمع في حفلة المستعمر قاتل مليون مواطن، بين 'نائب رئيس الوزراء' برهم صالح وهو المشهور بقوله 'احتاج ان اغسل فمي كلما نطقت كلمة العراق'، ووزير العلوم والتكنولوجيا رائد فهمي، القيادي في الحزب الشيوعي الذي انتقل بخفة الريشة من معسكر محاربة الامبريالية الى خدمتها، و'النائب' عدنان الدليمي الذي كرس شيخوخته للطائفية البغيضة؟ الاحتمال الثالث هو ان امريكا بنظامها الاستعماري الجديد تمسك مسؤولي 'الحكومتين' بلجام استراتيجية مصالحها وسياستها في المنطقة ومنظورها عن 'الشرق الاوسط الجديد'، على الرغم من كبوتها في العراق. وهي تتحكم بطول ودرجة شد اللجام حسب متطلبات السياسة الراهنة. اذ انها ترى ان ليس من مصلحتها معاداة تركيا وايران معا، وان قصفتا العراق، في الوقت الذي لم تحقق فيه النجاح المنشود في العراق. بل لعل من مصلحتها مسايرتهما الى حين، بحجة محاربة الارهاب، مع الاخذ بنظر الاعتبار اختلاف سياستها تجاه كل بلد على حدة. 
الاحتمال الرابع هو ان مسؤولي 'الحكومة المركزية' وبالتعاون مع حكومة الاقليم منشغلون، تماما، بتنفيذ حملة للقضاء على التسول في بغداد. فقد نشرت وكالات الانباء خبرا مفاده ان وزارة العمل والشؤون الاجتماعية قد اطلقت حملة للحد من التسول في بغداد بعدما اصبح التسول ظاهرة. وان هناك اعدادا كبيرة من المسنين والايتام والاحداث تتسول في الشوارع الرئيسية في العاصمة. واكتفى المستشار الاعلامي لوزارة العمل عبدالله اللامي في تصريح صحافي له نشر الثلاثاء بالقول انه 'يتوقع أن تسهم الحملة في الحد من هذه الظاهرة التي بدأت بالاتساع في السنوات الاخيرة'. ولم يشر الخبر الى اسباب هذه الظاهرة وكيف يتزايد عدد المتسولين يوميا من الشرائح الاضعف في المجتمع والتي هي في امس الحاجة للرعاية في بلد غني يضخ الذهب الاسود الى العالم. والمضحك المبكي في المسألة هو ان هذه الحملة المستهدفة للمتسولين من المسنين والايتام والاحداث 'ستنفذ بالتعاون مع وزارات الداخلية والدولة لشؤون الامن الوطني وحقوق الانسان والعدل'، حسب تصريح المستشار الاعلامي. 
لا عجب اذن الا تجد 'حكومتا' العراق القوات اللازمة للرد على قصف القرى الحدودية، ما دامت قدراتهما موجهة للقضاء على المتسولين في بغداد. ان مسؤولي 'الحكومتين' الذين جعلوا العراق في قمة الدول الأكثر فسادا ماليا في العالم، لا ينظرون الى المواطنين في المناطق التي تقصف في كردستان، وما يجره هذا القصف من تخريب لمصادر رزقهم في المياه والرعي والزراعة، وبالتالي من تشريد للعوائل. انهم، ايضا، يتعامون عن مأساة المسنين والأرامل والأيتام والأحداث، لانها قد تذكرهم بسرقاتهم التي تجاوزت ملايين الدولارات، في الوقت الذي يحاول فيه المتسول، ضحيتهم، الحصول على لقمة العيش له ولأفراد عائلته. انهم يتعامون، ايضا، عن حقيقة اسباب التشريد ومنها حملات القصف العشوائي سواء من قبل قوات الاحتلال او البلدان المجاورة. وأن حل قضايا التسول تبدأ في الدفاع عن حق المواطن في الحياة الكريمة. لا شك أن بعض المتسولين في بغداد وأربيل والسليمانية والموصل هم من الذين فقدوا مقومات حياتهم في ريف كردستان، ليضافوا الى مئات الألوف من بقية أنحاء العراق بعد تخريب سنوات الحصار والإحتلال، والذين لم تحتويهم رعاية المجتمع الأهلي ومبادرات الاهالي، فاضطرتهم قسوة الحياة الى التسول بعد أن تخلت عنهم 'حكومات' العراق مرتين.