Sunday 22 February 2009

من القس توتو الى منتظر الزيدي

29/12/2008
في مقابلة مع القس الجنوب افريقي ديزموند توتو، صباح يوم الخميس الماضي، في برنامج 'اليوم' البريطاني، وهو البرنامج الاهم سياسيا من برامج الـ'بي بي سي'، سألت مقدمة البرنامج، القس توتو عن مشاعره ازاء انتخاب باراك اوباما رئيسا للولايات المتحدة الامريكية فاطلق صيحة فرح ثم قال 'صار كل انسان اسود يسير وفي خطوته أمل'، الا انه لم ينس ان يذكر بان على العالم الا يتوقع الكثير لئلا يصاب بخيبة امل. ثم اعتبر وعد اوباما باغلاق معتقل غوانتانامو الكريه انجازا مهما. 
وعندما سألته الصحافية أنه لو سنحت له الفرصة أن يقدم نصيحة واحدة لاوباما، فماذا تكون؟ قال توتو بلا تردد 'ان يعتذر اوباما من الشعب العراقي عن الحرب التي شنتها امريكا ضده، بناء على كذبة، وما تلا ذلك من خراب'. وكرر توتو نصيحته لاوباما مرتين، مختتما اللقاء بلحظة صمت كانت ابلغ من اي كلام. 
وقد تم نقل خبر المقابلة مع توتو في عدد من نشرات الاخبار التالية للبرنامج، حسب المعتاد في الـ 'بي بي سي'، بدون الاشارة الى النصيحة بل للتأكيد على موقف توتو من الرئيس موغابي وتحبيذه القيام بعمل عسكري للاطاحة به. وتم بشكل انتقائي، تغييب ما ذكره توتوعن وجوب الاعتذار من الشعب العراقي. ويبين نقل خبر تصريحات توتو من قبل الـ 'بي بي سي' أهمية العمل الاعلامي وكيفية غربلة الاخبار وتقديم المطلوب وفق سياسة القناة او المحطة او السياسة الخارجية، اذا كان جهاز الاعلام تابعا للدولة. كما تبين تصريحات القس توتو، من جهة اخرى، ارتباط الدور السياسي بالوطني لرجل الدين وامكانية قيامه بدور يتجاوز محيط التبشير الى ماهو اوسع ليرتبط بهموم شعبه ووطنه وعموم الناس اينما كانوا. 
ويعيدنا تغييب الـ 'بي بي سي' لنصيحة توتو الى اوباما بان يعتذر من الشعب العراقي بينما ابرزت، المرة تلو المرة، قوله بوجوب الاطاحة بموغابي، الى ما قام به الصحافي الشاب منتظر الزيدي ورميه فردتي حذائه على رئيس الولايات المتحدة تذكيرا له بجرائمه البشعة وباسم ضحايا الجرائم من ايتام وارامل. حيث تكمن اهمية الحدث لا في طبيعته وجرأة منتظر فحسب بل وفي توقيته ايضا. وما كان الفعل الشجاع سيجلب اهتماما، بالحجم الذي رأيناه، لو انه لم يتم في الوقت الاعلامي الملائم وتحت انظار العالم عبر عدسات الكاميرات واجهزة التلفاز في غرف جلوس ملايين الناس في جميع انحاء العالم. اذ اننا نعلم جيدا بأن المقاومة العراقية الباسلة تنفذ عشرات العمليات العسكرية الناجحة المستهدفة لآلة الاحتلال العسكري، يوميا، ويقدم الشباب المقاوم ارواحهم فداء لارض وشعب العراق، منذ ما يزيد على الخمس سنوات، بدون ان تذكر اسماءهم بل وبدون ان تذكر العمليات نفسها، احيانا. 
وما كان تواصل الاهتمام بحدث رمي الحذاء سيستمر في جميع انحاء العالم، وهذا مطلوب وفي غاية الاهمية مادام منتظر الزيدي معتقلا لدى حكومة الاحتلال، لولا وقوف قناة البغدادية المشرف بجانب مراسلها واستمرار متابعتها لما يمر به وما سيترتب على عمله الشجاع من اجراءات قانونية او غير قانونية. ان هذا الظرف الخاص وارتفاع الاصوات المتضامنة مع منتظر الزيدي ومن خلاله مع كارثة الشعب العراقي تحت الاحتلال، يثبت بما لا يقبل الشك اهمية العمل الاعلامي كشكل من اشكال المقاومة الوطنية وهو شكل مكمل للمقاومة السياسية والمدنية والاهلية مع الاعتراف بأولوية المقاومة المسلحة. واعتبار كل اشكال المقاومة مهمة، سلاحا أم شعرا ام نثرا، كاريكاتيرا وفيلما، بالقلم او الكاميرا أو برمي الاحذية على العملاء وقوات الاحتلال المتشدقين بانتصاراتهم وهم يسيرون على اجساد ضحايانا، سيشجع كل مواطن على محاربة العدو المحتل وفق امكانياته ليساهم في انهاء كابوس الاحتلال الهادف الى تمزيق الوطن. 
الجانب الثاني المهم في مقابلة الـ 'بي بي سي' مع القس توتو هو شخصيته. فهو في مركزه الديني يوازي وضمن التراتبية الكنائسية ما يعادل المفتي او المرجعية الدينية. وهو مناضل له مكانته الخاصة في بلده وافريقيا وارجاء العالم. يجمع في شخصيته ما بين الهم السياسي الوطني ومحاربة العنصرية والدفاع عن حقوق الانسان بالاضافة الى تمسكه بالثوابت الدينية في التسامح والسلام. وقد دعا في قمة النضال المسلح ضد حكومة التمييز العنصري الموصوف من قبل بريطانيا بالارهاب، الى مقاطعة البضائع المصنوعة في بلده اضعافا للحكومة العنصرية. وتعبيرا عن احساسه بحقوق الانسان اينما كان والدفاع عن ذلك، يقف القس توتو بقوة الى جانب الشعب الفلسطيني في عزلته المفروضة وحصاره من قبل قوات الاحتلال الصهيونية. وقد شبه توتو محنة الشعب الفلسطيني بما تعرض له الشعب في جنوب افريقيا في ظل الحكومة البيضاء العنصرية مصرحا بان اسرائيل كيان مبني على العنصرية وانه اثناء زيارته للارض المحتلة شعر وكأنه يعيش من جديد حالة التمييز في بلاده. 
القس توتو، اذن، هو حامل للهم الانساني ورجل دين يدعو الى المصالحة واظهار الحقيقة، بصوته وشخصه، لم يتوار يوما خلف ناطقين باسمه، يفعلون ما يشاؤون وينطقون بما يشتهون، بل وقف دائما ليقول ما يريد قوله بنفسه، صوابا ام خطأ، متحملا المسؤولية كاملة. مما يدفعنا الى التساؤل عن دور رجال الدين في العراق المحتل والى جانب من يقفون. فباستثناء القلة، وقف رجال الدين الطائفيون، في صف الاحتلال المتطابق في مصلحته مع مصالحهم الطبقية والشخصية، حفاظا على صناعة الترويج للبضاعة الطائفية، بحجة السياسة او تحت مسميات مختلفة لاحزاب بعيدة كل البعد عن المفهوم العراقي العام للاسلام. فاختلطت طقوس القرون الوسطى، التي أحياها الاستعمار البريطاني في الثلاينيات والاربعينيات من القرن الماضي، باجبار الفقراء عن طريق الترويع وترسيخ الخرافات والاوهام على شراء رضى رجل الدين وتوزيع قسائم الفردوس الموعودة. 
ووصل الحال بالمعممين الى حد استقطاع ليترات من النفط الموزع للتدفئة والوقود شتاء وبنسبة الخمس حتى قبل ان يحصل المواطن على حصته. وصار البديل الطائفي للحصول على ما هو حق من حقوق الانسان من تعليم وصحة وسكن وطعام وعمل وعودا زائفة واكاذيب مزوقة وسرقة للمال الخاص والعام. 
واختلط الفساد المالي والرشوة والنهب العام بالصناعة الطائفية وترويج الخزعبلات وافكار ما قبل نمو العقل الانساني ترويعا للمساكين. واصاب رشاش التخلف المصنع، بمثابرة تشي ان الصناعة متعمدة وليست صدفة او بسبب الجهل لوحده، المجتمع كله، خاصة بعد استهداف الطبقة الوسطى المتعلمة واجبارها على الهجرة الجماعية اثر اغتيال المئات من افرادها. 
لقد تنبه المرشدون الدينيون المسيحيون والمسلمون وغيرهم في شتى الأقطار، مثلهم مثل القس توتو، الى اخطار زج الخلافات الدينية في الصراعات السياسية وتفادوه بإنتمائهم للحركات الوطنية لا تجييرها لأنفسهم. أما عندنا فتستخدم الاحزاب السياسية الطائفية الرموز الدينية المحترمة تاريخيا، من قبل الجميع في العراق، كماركات لترويج البضاعة الدينية من سلاسل حديدية ورايات واعلام وقنوات فضائية وفنادق ومجالس عزاء تمتد لتحتل ثلاثة ارباع العام. وهي مسألة لا اعتراض عليها اذا ما تم استخدامها، كما في العديد من دول العالم، باعتبارها تتعلق بمناسبات دينية محددة وعند زيارة الاماكن الدينية في ارجاء العالم كنوع من السياحة الدينية وليست اداة للتحريض على العنف والقتل وتأجيج الصراعات وتقسيم الناس والوطن وتمكين المحتل من البقاء تحت عمامة المظلومية الابدية، والخوف من التصفية الجسدية الجماعية. 
لقد طالب القس توتو، كما يطالب العالم، أمريكا بالاعتذار من الشعب العراقي، على ما إرتكبته من دمار وجرائم كخطوة إولى، وهي خطوة لن تكتمل، اذا ما اردنا مستقبلا مؤسسا على العدالة والسلام الحقيقي، ما لم يقوم كل السياسيين ورجال الدين الذين تورطوا في جريمة الغزو والإحتلال، ومن إنخرط في التمزيق الطائفي والأثني، بالاعتذار من الشعب، وأن ينحازوا بوضوح الى معسكر المقاومة الشاملة بكل أشكالها، حتى التحرير، وإعادة بناء الدولة العراقية بعيدا عن مخططات الإستعمار والصهيونية للمنطقة.