Monday 21 December 2009

قوات الاحتلال في العراق: انسحاب من المدن أم اعادة انتشار!

القدس العربي
04/07/2009
أوصاف كثيرة سفحت يوم الثلاثين من حزيران (يونيو)، عن انسحاب القوات الأمريكية من المدن المحتلة، سواء من قبل ادارة الاحتلال الامريكية او حكومة الاحتلال. ولنبدأ بخطاب حكومة الاحتلال. الوصف الاكثر شيوعا وتكرارا، في خطب معظم ساسة الاحتلال من العراقيين، كان استرداد 'السيادة الوطنية' و'اليوم التاريخي'. ولمفهوم 'السيادة' واستلام السيادة طنين غريب في العراق الجديد. فقد قام الحاكم المدني بول بريمر بـ 'تسليم السيادة' الى اياد علاوي، رئيس وزراء اول حكومة احتلال، يوم 28 حزيران (يونيو) 2004 بدلا من اليوم المقرر وهو الثلاثون من حزيران (يوينو)، وهرب تحت جنح الظلام خوفا من عمليات المقاومة. ودام الاحتفال مدة خمس دقائق قال فيه بريمر مخاطبا علاوي وعجيل الياور وبرهم صالح: 'أنتم مهيؤون الآن للسيادة، ونعتقد ان ذلك جزء هام من تعهدنا كراع مؤقت لاعادة السيادة اليكم' ووصف علاوي اليوم (لاحظوا التشابه في التعامل مع يوم الانسحاب) بأنه 'يوم تاريخي'. وأضاف الياور: 'هذا يوم تاريخي سعيد'. فأجاب بريمر مذكرا اياهم بافضال امريكا عليهم: 'بدون شك كان تحرير العراق واحدا من أعظم وأنبل الانجازات'.
من يومها وهاجس استلام 'السيادة' لا يغادر ساسة الاحتلال، ربما لأن ذاكرة الكذاب لا تتسع لكل الأكاذيب اليومية، وتسليم واستلام السيادة كذبة تحتاج اضافات وتحسينات على مدار الايام. فصار 'العراق الجديد' ينام على السيادة ويصحو على استكمال السيادة. ففي تعليق بتاريخ تشرين الثاني (نوفمبر) 2008، قال 'الرئيس' جلال الطالباني 'إن إقرار اتفاقية انسحاب القوات الامريكية من العراق يعني استكمال عناصر السيادة والاستقلال في البلاد'. غير انه سرعان ما نسى، اثناء الحوار الذي اجرته معه قناة العراقية الرسمية، قصة السيادة، ليقول: 'مع الاسف الشديد الكثير من اخواننا في العراق لا يعرفون ما وراء الكواليس، نحن لسنا بلدا حرا مستقلا متحررا '. ثم عاد الطالباني ليتذكر افضال سادته عليه يوم افتتاح أكبر سفارة لامريكا في العالم، في العاصمة بغداد، في 5 كانون الثاني (يناير) 2009، قائلا بان 'وجود هذا العراق الديمقراطي الإتحادي المستقل ما كان ممكناً لولا القرار الشجاع والتاريخي لفخامة الرئيس جورج دبليو بوش بتحرير العراق'. وكان خطابه بحضور مجرم الحرب نائب وزيرة الخارجية الأمريكية جون نغروبونتي الذي أدلى بدلوه في مفهوم السيادة، قائلا: 'لقد كرستم حياتكم كمناضل ورجل دولة، من أجل عراق حر ذي سيادة ومتحد'. ومن الجدير بالذكر ان نيغروبونتي هو الاب الروحي لفرق الموت في امريكا اللاتينية والعراق، التي تجاوز عدد ضحاياها، حسب تقارير عالمية، مئات الآلاف من المدنيين.
وقد ساهم رئيس وزراء حكومة الاحتلال الثانية ابراهيم الجعفري، وهو المشهور بتلذذه بسماع صوته، باضافة ابعاد جديدة الى مفردة السيادة. حيث قال في الاول من تموز (يوليو) 2005، ان 'محاكمة صدام حسين ستمثل شكلا من أشكال السيادة العراقية'. وبما ان حزب الدعوة الطائفي هو الذي انجب الجعفري والمالكي، فلا غرابة، اذن، في تطابق خطابيهما عن السيادة على الرغم من اختلاف الفترة الزمنية. فها هو المالكي يوجه كلمة الى العراقيين، بمناسبة الانسحاب، قال فيها: 'السيادة الوطنية خط احمر لا يمكن تجاوزه باي حال من الاحوال'. وهو نوع من الهذيان يذكرنا بتصريحات قادة حزبه والمجلس الاسلامي الاعلى حينما كانوا يقولون بانهم سيتخلصون من الاحتلال خلال ستة أشهر وان 'السيادة' خط احمر! ويواصل المالكي كلمته قائلا: 'لقد دخل العراق اليوم في مرحلة جديدة بعد تنفيذ اتفاق سحب القوات الاجنبية'. ولنترك اسطوانة دخول العراق مرحلة جديدة جانبا لانها تخدشت وتكسرت لفرط التكرار ولننظر الى حقيقة 'سحب القوات الاجنبية'. انه لا يزيد عن كونه انسحابا شكليا لغرض حماية قوات الاحتلال من هجمات المقاومة، حيث ستستخدم القوات العراقية كدروع بشرية لحمايتها مع المحافظة على آلياتها وعدتها كما هي في قواعدها المحصنة. وستتمتع بامكانية العودة الى الشوارع اذا ما تطلب الامر ذلك فضلا عن حريتها في شن الهجوم الجوي واستخدام الطائرات بلا طيار للاغارة والقصف والمراقبة. ولا تزال قوات الاحتلال جاثمة على قلب بغداد في أكبر سفارة أمريكية في العالم كله، وعلى مدخل المنطقة الخضراء، وعلى طول طريق المطار، وفي مناطق في غرب بغداد أعيد تصنفيها لتكون 'خارج المدن'. وبينما استبدلت القوات الموجودة في المدن اسماءها لتسمى 'استشاريين' ومدربين، تدل آخر التقارير ان عدد المرتزقة العاملين بامرة البنتاغون قد ازداد بنسبة 23 بالمئة منذ وصول اوباما الى الرئاسة. وهم حسب الأرقام الأمريكية في هذا الشهر 126 ألف متعاقد عسكري، أي غير العاملين في الخدمات أو سياقة الشاحنات وغيرها، اكثر من 30 في المئة منهم أمريكيون من العاملين السابقين في فرق المهمات الخاصة، والآخرون من المحترفين من أمريكا اللاتينية وجنوب أفريقيا والمناطق التي طبقت عليها تجارب قمع حركات التحرر والديمقراطية. مما يعني ان سحب اي عدد من قوات الجيش الامريكي النظامي ستقابله زيادة بنسبة اكبر من المرتزقة الذين يتمتعون بحصانة اكبر من افراد الجيش الامريكي مهما ارتكبوا من جرائم قتل وانتهاك. وهي واحدة من النقاط الاساسية التي يتعامى عنها ساسة الاحتلال وان تشدقوا بالغائها بين الحين والآخر كما فعل الجعفري، في ايلول (سبتمبر) 2005، حين كذب بلا خجل قائلا : 'ان القانون العراقي من الآن فصاعدا سوف يطبق على كل الجرائم التي ترتكب في العراق بما فيها تلك التى ترتكبها القوات متعددة الجنسيات فى ضوء فرض سيادة القانون وسريانه على الجميع'. وها نحن في منتصف عام 2009 ولا يزال القتلة يمرحون ويسرحون على ارض عراقنا.
وكان الميجور جنرال روبرت كاسلن، قائد القوات الامريكية في الشمال، قد صرح يوم 26 حزيران (يونيو)، بان القوات الامريكية ستسور المدن كمحاولة لتكرار استراتيجية تكثيف القوات التي طبقها الجيش سابقا بامرة الجنرال دافيد بترايواس. كما ذكر بان الحكومة العراقية قد وافقت على قوات 'غير قتالية' في بعض المدن ومنها بقاؤها في خمسة مواقع داخل مدينة الموصل حتى بعد يوم 'الانسحاب'.
ان حكومة الاحتلال المتبجحة بالسيادة نجحت والحق يقال في تحويل السيادة، مثل العديد من المفاهيم النبيلة المرتبطة بالكرامة والعدالة، الى خرقة مهلهلة لاتصلح حتى للتعليق على شباك احد الأئمة لنيل المراد. ولا ادري اذا ماكانت صور المليون ضحية من المدنيين العراقيين ممن قتلوا نتيجة غزو واحتلال العراق قد مرت امام عيني المالكي وهو يقرأ كلمته عن العلاقات المتكافئة مع امريكا، ملقيا اللوم على 'الارهابيين والتكفيريين وازلام النظام البعثي - الدكتاتوري والعصابات الاجرامية' وكأنه لم يسمع عن مئات التقارير الصادرة عن المنظمات الحقوقية والانسانية العالمية وبضمنها مكتب الامم المتحدة في العراق (يونامي) الناشط بعلم حكومته وبالتعاون معها، وهي توثق الانتهاكات وامتهان الكرامة والقتل وكل انواع الجرائم التي ترتكبها قوات الاحتلال اما منفردة او بالاشتراك مع قوات أمنه وميليشيات حكومته.
ان حماية المحتل والسكوت على جرائمه جريمة لا تغتفر وسيظل المواطن العراقي ضحية هذه الجرائم والانتهاكات، باشكالها، مادام المحتل باقيا على ارضنا ويتمتع بالحصانة من قوانينا، ولن يتغير الامر كثيرا اذا كان المحتل داخل او خارج المدينة.