Wednesday 10 November 2010

المقاومة الاكاديمية العراقية والعربية للهيمنة الثقافية

القدس العربي
20/02/2010
نادرة هي الدوريات الاكاديمية، الصادرة باللغة الانكليزية، التي تعنى بالشؤون العربية المعاصرة وبالشأن العراقي خاصة، وان كان هناك عدد من الدوريات الاكاديمية العريقة تعنى بدراسات الشرق الاوسط عموما. بعض هذه الدوريات مستقل حافظ، على مر السنين، على مصداقيته العلمية وسمعته في مجال البحث العلمي الرصين والفاتح لآفاق فكرية جديدة والاخر يتأرجح ما بين 'الموضوعية' وارتداء غطاء البحث العلمي النزيه، حسب متطلبات الحصول على الدعم المادي والترويجي من منظمات ومؤسسات تتوخى التغلغل في تحديد مناهج البحوث وتشجيع النشر لحساب جهة ضد اخرى.
وقد ازدادت في السنوات الاخيرة، خاصة في اعقاب الحادي عشر من ايلول/سبتمبر 2001، التدخلات السياسية والعسكرية الاستراتيجية الامريكية، وبدرجة اقل نسبيا في بريطانيا، في مجالات البحث الاكاديمي والنشر العلمي، بشكل ضغوط مباشرة او غير مباشرة.
هناك مثلا منظمات رصد الاكاديميين او الحرم الجامعي ' كامباس ووتش' الصهيونية بفروعها الراصدة لمختلف الجامعات والانشطة الاكاديمية، وهي ترصد بدقة استخباراتية كل ما يقوم به الاساتذة سواء في المحاضرات او النشاطات الجانبية العامة فضلا عن الكتابة والنشر الاكاديمي. فالويل الويل لاستاذ يتجرأ على الحديث عن اتلاف الارشيف الفلسطيني، كما فعل الاستاذ خالد رشيدي، أو الهيمنة الثقافية او التمييز العنصري الاسرائيلي كما يشخص الاستاذ جوزف مسعد، أما فاذا حدث وشارك استاذ او محاضر في امسية تحدث فيها عن قصف غزة مثلا وسقوط الضحايا من المدنيين الفلسطينيين، حتى بتجرد علمي مستند الى احصائيات الامم المتحدة، أو الاشارة الى وجود المقاومة العراقية والفلسطينية واللبنانية، كما يفعل الاستاذ حميد دباشي، فان التهمة الجاهزة هي معاداة السامية مما يجعل الاستاذ المعني مؤهلا للضم الفوري الى القائمة السوداء للاكاديميين المتهمين بالنشاطات المعادية للصهيونية. ولا يعبأ هؤلاء، وهم المعتمدون على معطيات حقيقية في بحوثهم، والعارفون بقواعد اللعبة الأكاديمية. ويستندون على كون الجامعات لا تزال محتفظة ببعض قوتها الأصلية التي إكتسبتها عبر القرون، في مجال محدود من الإستقلالية عن السلطة الراهنة، والتمويل، والرأي العام المتقلب، وكون المجتمع بحاجة اليها كأمين محايد موثوق به على المعرفة الصحيحة المتراكمة.
ويلعب النفوذ الصهيوني، اما بشكل مباشر من خلال الدعم المالي للبحوث والدراسات والمشاريع الجامعية ونظام المنح، دورا في تحديد مسار البحث والنشر والتأسيس الاكاديمي، او بشكل غير مباشر من خلال الاتصال بالجهات المانحة والضغط عليها باساليب مختلفة لتقوم بسحب المنح والمساعدات للبرامج او المشاريع او الاقسام الجامعية.
غير ان تهديدات منظمات الرصد الصهيوني والضغوط السياسية اليمينية، خصوصا من قبل المحافظين الجدد، والتأثير العسكري ومغريات توفير فرص العمل والبحوث في مجالات التنقيب عن الآثار وعلم الأنسنة (الانثروبولوجي)، لم تنطل على كل الاكاديميين الامريكيين والبريطانيين، خصوصا فيما يتعلق بموضوعي الاحتلال الصهيوني لفلسطين والامريكي للعراق. حيث لاتزال هناك قلة من الاكاديميين العراقيين والعرب والغربيين، فضلا عن مراكز دراسات مختصة، تواصل عملها وبحثها المستقل وتحاول العثور على سبل لاقامة جسور البحث والدراسة والتطوير الفكري المعرفي ما بين الاكاديميين العراقيين (سواء في داخل او خارج العراق) والعرب من جهة والغربيين من جهة اخرى.
من بينهم، مجموعة من الاساتذة والباحثين والناشطين الذين التقوا في بداية عام 2005، لتأسيس الرابطة الدولية للدراسات العراقية المعاصرة، وتم عقد المؤتمر العلمي الاول للرابطة في لندن في ايلول/سبتمبر من العام نفسه. ومن بين مؤسسي الرابطة والمشاركين في مؤتمرها الاول: جاكلين اسماعيل، ريموند بيكر، طارق اسماعيل، كامل مهدي، شهرزاد قاسم حسن، جونتر ماير، أريك ديفز، سميع البنا وهيفاء زنكنة. وتواصل الرابطة عقد مؤتمراتها العلمية وسيعقد مؤتمرها المقبل في شهر تموز/يوليو في برشلونة على هامش مؤتمر عالمي أوسع. والى جانب المؤتمر السنوي، تواصل الرابطة اصدار دوريتها الاكاديمية المحكمة الفصلية باللغة الانكليزية 'الدورية العالمية للدراسات العراقية المعاصرة'، ويرأس تحريرها البروفسوران جاكلين وطارق اسماعيل مع هيئة استشاريين، من بينهم من الاكاديميين العراقيين المرموقين: البروفسورة فريال غزول، بروفسور ثابت عبد الله، د. زينب بحراني، ود. وليد خدوري، بالاضافة الى عدد من الاكاديميين الاجانب المختصين بالشأن العراقي خاصة والشرق اوسطي عامة. وتعتبر هذه الدورية هي الدورية الاكاديمية الوحيدة المختصة بالشأن العراقي، وتم تكريس الاعداد الاخيرة منها للتركيز على موضوع واحد دون غيره. فكان هناك عدد خاص بالاعلام وآخر بالتأريخ ويعنى العدد الاخير، الصادر هذا الشهر، بالبحوث والدراسات عن الثقافة العراقية. أشرفت على العدد المتميز فريال غزول، استاذة الادب في الجامعة الامريكية بالقاهرة. وهو عدد اوصي بقراءته لغنى موضوعاته وجديتها وتوثيقها بدءا من المقدمة وانتهاء بعرض الكتب.
وقد تم، اخيرا، اصدار مجلة فصلية ثانية باللغة الانكليزية تدعى 'شؤون عربية معاصرة'. وهي دورية محكمة يصدرها مركز دراسات الوحدة العربية، ببيروت، بالتعاون مع مؤسسة تايلور وفرانسيس، التابعة لمؤسسة النشر المعروفة 'روتليدج' بلندن. ورئيس تحرير المجلة هو د. خير الدين حسيب ويضم مجلس التحرير عددا من الاكاديميين العرب والاجانب، من بينهم: زياد حافظ، وميض نظمي، غسان سلامة، ليلى شرف، عزمي بشارة، توبي دوج، وعلي فخرو. ويعتبر اصدار هذه المجلة خطوة مهمة لمخاطبة الناطقين بالانكليزية عن الشأن العربي المعاصر وباقلام كتاب عرب، حيث تتضمن مقالات سياسية وثقافية واقتصادية وعلمية، نصفها ملخص او مترجم من الدراسات المنشورة في مجلة 'المستقبل العربي' الصادرة عن المركز باللغة العربية، بالاضافة الى المساهمات باللغة الانكليزية من باحثين عرب واجانب من المهتمين بالشأن العربي. ومن المتوقع ان تسد هذه الدورية العلمية فراغا في مجال الكتابة عن الشأن العربي من بل العرب انفسهم، خاصة مع التسارع الكبير في تسويق الاكاديميين المتعاونين بشكل او آخر مع الادارة الامريكية والحكومة البريطانية في تكريس سياستيهما الخارجية ازاء البلدان العربية تحت مسميات علمية مثل 'اخصائيون ومستشارون'، توحي للآخرين بانهم حياديون وموضوعيون.
ان وجود مجلات علمية محكمة تهتم بالشأن العراقي والعربي والشرق الاوسطي عامة وتضم مساهمات من قبل اكاديميين وباحثين من اهل المنطقة ومن اصدقائهم، مسألة ضرورية جدا وتستدعي الانتباه لمواجهة المشاريع السياسية والعسكرية الكبيرة التي تحاول احتواء الاكاديميين بشكل لم يسبق له مثيل. ويعتبر اعلان وزير الدفاع الامريكي روبرت غيتس، في ايار/ مايو 2008، عن برنامج 'منيرفا كونسورتيوم' لحث الجامعات الامريكية للعمل مع وزارة الدفاع الامريكية على العمل المشترك، خاصة في مجال العلوم الاجتماعية، لاجراء البحوث بدءا من الاقتصاد الصيني وانتهاء بالدراسات الدينية، هو واحد من العديد من البرامج المتشابكة ما بين الجامعات والبنتاغون .
وتدل نتائج بحوث ودراسات الاكاديميين المتعاونين مع الادارة الامريكية بانهم يساهمون في ترسيخ البقاء الاستعماري بعيد الامد. وهم يساعدون في تحديد ملامح 'الاستراتيجية الافضل' للبقاء عن طريق الهيمنة الثقافية والاقتصادية وليس المعسكرات المستديمة. حيث يتحول الحرم الجامعي، في البلد المستعمر، الى موقع يتم فيه نشر الفكر الممنهج للدولة المسيطرة. فاذا كانت ايديولوجيا الحزب الواحد هي التي كانت تشكل كنه النظام التوتاليتاري، فان فكر المستعمر الامريكي بتفرعاته المحلية هو الطامح الى الهيمنة الثقافية عبر الطائفية والعرقية المصاغة بشكل اكاديمي، أو ما يطلق عليه مصطلح 'القوة الناعمة'. وليس لنا في مواجهة هذه غير أن تكون لنا أيضا مقاومتنا الناعمة
.