Thursday, 10 January 2013

امريكا ونيتها الصافية تجاه الشعوب

18/11/2011
يبدو ان المثل العربي 'انما الاعمال بالنيات' لا ينطبق على الامريكيين، خصوصا اذا كانوا من طاقم احتلال العراق. اذ يتحجج الجميع بالنية الحسنة لغزو واحتلال البلد لـ'صالح أهله'. غير ان هذا الادعاء، الذي ينظف الغزاة من المسؤولية القانونية والاخلاقية، لغياب عامل التعمد المسبق للتخريب وارتكاب الجرائم بانواعها،لا يبرز بشكل طاغ في كتاب بيتر فان بورين المنشور بأمريكا، اخيرا، بعنوان 'كانت نيتنا صافية: كيف ساعدت في خسارة معركة الفوز بقلوب وعقول العراقيين'.
وكتاب فان بورين هو واحد من آلاف الكتب التي صدرت منذ غزو العراق في 2003، على اختلاف اجناسها، من اليوميات والمذكرات الى الدراسات والبحوث في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية الى الرواية والقصة والمجموعات الشعرية. ومعظم هذه المؤلفات مكتوب باللغة الأنكليزية بحكم قيادة الغزو من قبل أمريكا وبريطانيا، حيث اصبحت المشاركة في احتلال العراق جزءا من الذاكرة الجماعية للشعبين ودرسا صالحا للبحث والتطوير من قبل الحكومتين ومؤسساتهما. مع ملاحظة قلة المنشور باللغة العربية عموما ومن قبل العراقيين انفسهم بشكل خاص، ولهذا الجدب بطبيعة الحال اسبابه التي تستحق المتابعة والبحث.
ويعتبر كتاب فان بورين واحدا من جنس الكتب التي لاقت رواجا في سوق النشر الامريكي والغربي في اعوام الاحتلال التسعة، لأنها توثق يوميات الجنود، او العسكريين عموما، او موظفي وزارة الخارجية، وانطباعاتهم وتجربتهم 'الانسانية' اثناء وجودهم بالعراق وكيف اجبرتهم الظروف المادية او الحصول على البطاقة الخضراء، للتجنس، على التطوع في الجيش. وقد لجأ بعض العسكر الى كتابة المدونات على شبكة الانترنت بداية ثم تجميعها بشكل كتاب فيما بعد.
ولا يقتصر النشر على العسكر والدبلوماسيين بل ويتعداه الى بعض علماء الأنسنة (الانثروبولوجيين)، في مجال التعاون العسكري الاكاديمي، ومن سارعوا الى اقتناص فرص العمل المربح من المتعاقدين أو المبشرين الدينيين و'المتطوعين الانسانيين' لبناء المجتمع المدني. يلاحظ ، في معظم هذه الكتب، وقد جمعت وقرأت الكثير منها، التركيز على طابع حسن النية (أو ما يسمى بالبراءة الاخلاقية) الشخصي والعام، خاصة لدى العسكر الذين يدينون بالولاء لزملائهم، حتى عند ارتكابهم ابشع الجرائم.
اذ تبرر جرائم الأمريكيين بانها حصيلة الارهاق وصغر سن الجنود وقلة خبرتهم بالاضافة الى (وهو العامل الرئيسي) حالة الفوضى والاقتتال الداخلي بين العراقيين انفسهم مما يستدعي تدخل القوات الامريكية، لانقاذ العراقيين من انفسهم وذاتهم العنيفة. السبب الرئيسي لسقوط الضحايا (ما يزيد على المليون ضحية)، اذن، حسب سرد المحتل الامريكي، هو الضحية نفسه. وهو ذات السرد الاسرائيلي تجاه الضحايا الفلسطينيين. وهو ذاته من قبل كل الغزاة في كل العصور.
وقد اخترت الأشارة الى كتاب فان بورين لسببين. اولهما انه غير مغلف مئة بالمئة، كما غيره، بالنية الحسنة المعتادة للغزاة في مشاريع الاحتلال وثانيهما لأنه، وان لم يقدم لنا معلومات جديدة عن نتائج مشاريع 'الأعمار' الامريكية في سنوات الاحتلال التي نعرفها، الا انه ولكونه موظفا خدم باخلاص لمدة 23 عاما في وزارة الخارجية الامريكية، يوثق في كتابه تفاصيل ، من داخل مؤسسة الاحتلال، ذات قيمة قد تكون قانونية، كما هي قيمة نشر وثائق العراق من قبل ويكيليكس.
قضى فان بورين عام 2009 في العراق كمسؤول اول عن مشاريع الاعمار التي يفترض تسليمها من الجيش الى وزارة الخارجية أو السفارة الامريكية ببغداد، في فترة ما بعد توقيع معاهدة الاطار الاستراتيجي بعيدة المدى لتنسيق 'التعاون' العراقي الامريكي، بعد جلاء قوات الاحتلال. ويقدم لنا في الكتاب تفاصيل العديد من المشاريع التي قدمت اليه، خلال العام، والتي انتهى معظمها بالفشل الذريع وهدر المبالغ الطائلة بالمليونات.
معظم المشاريع التي يتناولها هي وحسب تعبيره قد تم تبنيها لتحقيق نجاح اعلامي سريع يمنح الرأي العام الامريكي، والعراقي بدرجة اقل، بان الوجود العسكري قد حقق نجاحا كبيرا على كافة الاصعدة حتى وهو يتهيأ بقضه وقضيضه 'للهرب السريع'، الذي لم يكن مخططا له اطلاقا في بداية الغزو، حسب تعبير فان بيرين. ولا يكتفي المؤلف بذكر ميزانية المشاريع والجهات المشرفة، عسكرية كانت ام مدنية، والمتعاقدين الامريكيين والمتعاقدين الأصغر من العراقيين، بل يتطرق الى نوعية المشاريع ومدى فائدتها للشعب العراقي ليثبت باسلوب تهكمي ساخر بان معظمها، ان لم يكن كلها، بلا فائدة ولاعلاقة له باولويات الشعب واحتياجاته (حتى الآنية منها) وطموحاته المستقبلية. وان كانت كل البيانات الصحافية والتصريحات الاعلامية، امريكية كانت ام من طاقم 'الحكومة' العراقية، مزوقة بالايجابيات وتقديم صورة مشرقة عن الاحتلال ومشاريعه. من المشاريع المذكورة التي 'اهدرت الملايين من الدولارات وساهمت في خلق حالة فساد نادرة ستذكر بعد مغادرة القوات بعقود'، حسب تعبيره، ترجمة مؤلفات ادبية امريكية لتوزيعها على الشعب العراقي الذي حرقت مكتباته ونهبت مخطوطاته، عقد مؤتمرات وورشات 'تمكين المرأة' باشراف نساء غير مؤهلات بعد منحهن القابا وظيفية على غرار 'مستشارة برامج المرأة' فقط 'لأنها ذات اعضاء انثوية'، كما جاء في صفحة 45 من الكتاب. هناك، أيضا، تفاصيل منح آلاف الدولارات لمنظمات مجتمع مدني وهمية مكونة من شخص واحد أو اثنين، ووفق عملية احتيال بسيطة على قانون المنح الامريكي. ففي الوقت الذي لا يمكن فيه منح احد المتعاقدين مبلغا يزيد على حد معين، بالامكان منح المتعاقد نفسه مبلغا غير محدد اذا ما سجل نفسه كصاحب منظمة مجتمع مدني.
وتفاصيل تأسيس مراكز لتوزيع الحليب في مناطق لا تحتاجها لا تقل فسادا عن تدريب مجموعة من النساء على الخياطة لـ 'تشجيع المرأة على المساهمة في تحسين الاقتصاد'، حسب التصريح الصحافي للمشروع الذي توقف بعد بضعة اشهر لأن تكلفة شراء ما تخيطه النساء خمسة اضعاف ما هو متوفر في الاسواق. أما معمل ذبح الدجاج الذي وصفه البيان الصحافي بانه 'جاء بناء على القيام بدراسة بينت حاجة السوق المحلي الملحة للدجاج' فان بورين يخبرنا بان قصة الدراسة اكذوبة وان الدجاج البرازيلي الحلال يسد حاجة السوق. وتطول قائمة المشاريع 'الهوائية' التي لا تتجاوز فترة تطبيقها لبضعة اشهر وتغلق، حالما تنصرف عنها انظار اجهزة الاعلام، لا لأنها لا تنافس البضائع المتوفرة في السوق، كما يقول فان برين، ولكن وكما ثبت في سنوات الاحتلال، بعد ان تقبض كل جهة مشاركة، من مخططي مشاريع 'الأعمار' الى المتعاقدين الامريكيين الكبار الى المنفذين العراقيين الصغار، حصتها من الفساد. فلا عجب ان يتبوأ العراق المركز الرابع، عام 2010، بين اكثر الدول فسادا في العالم. ولا عجب ان تبقى مشكلة الكهرباء أزلية على الرغم من ميزانية مليارات الدولارات، وان يموت الاطفال لشربهم المياه الملوثة، وتعرضهم مع الامهات والآباء الى تلوث اليورانيوم والمعادن الثقيلة حيث اعتبرت ادارة الاحتلال 'ان مشاريع الماء والكهرباء والمجاري ليست ذات قيمة اعلامية سريعة' لذلك لم تجعلها من الاولويات بعد تسليم السلطة الى العراقيين في 2004. فما هي الاولويات؟ من بين المشاريع التي اعتبرها الجيش الامريكي ووزارة الخارجية، بديلا لتزويد العراق بالكهرباء والماء الصالح للشرب ومد المجاري، كما انها ذات تأثير مباشر لكسب قلوب وعقول العراقيين مشروع 'المساعدات الانسانية'. وهو عبارة عن ارسال عدد من الجنود الامريكيين لتوزيع اكياس الحلوى على الاطفال وأكياس صغيرة للنساء تحتوي على فرشاة ومعجون اسنان وحفاظات للدورة الشهرية 'لتعليمهن شروط النظافة'. يقول فان بورين في ص 114 من الكتاب واصفا مشهد التوزيع وغايته، قائلا: 'يضحك الجنود وهم يوزعون المساعدات وبحضور اعلام الجيش ومجموعة الاعلام الدعائي.
فهذه المناسبات مستحدثة خصيصا لالتقاط صور رائعة لجندي يحتضن طفلا، وجندي يبتسم لامرأة محجبة. ولو حاول المصورون النظر ابعد قليلا لوجدوا ان وجوه العراقيين الواقفين على مبعدة تزداد تجهما كلما قبل 'المساعدة' من تجاوز سن الطفولة. فمن النادر جدا ان ترى رجلا يتقبل 'المساعدة'.
واذا ما حدث وحضرالرجال حفل التوزيع فانهم يقفون على مبعدة من الحشد بوجوه صلبة لا تشي بما يشعرون'. ولعل أفضل تلخيص لموقف العراقيين الرافض للتعاون مع الاحتلال، وسياسة المحتل المبنية على التهديم الكلي من جهة والظهور بمظهر المحسن من جهة اخرى، هو موقف الفلاح العراقي الذي قدم اليه فريق فان بورين بعض البذور كـ 'مساعدة انسانية' لزراعتها، فبصق الرجل رافضا وهو يقول: 'لقد قتلتم ابني، وتعطوني الآن شجرة'!