Saturday 5 January 2013

مرثية لصديقنا براين

24/06/2011
هل يمكن لمبادرة فردية صغيرة ان تتطور لتؤثر وتترك أثرا لايمحى في ذاكرة الناس؟ وهل من الممكن ان تغير ولو قليلا؟ الجواب هو نعم وحياة صديقنا براين هاو الذي غادرنا منذ ايام، افضل دليل على ذلك. أقول صديقنا براين، لانه استطاع، خلال عشر سنوات من اعتصامه في واحدة من اهم ساحات لندن، ان يتجاوز ما هو فردي ليصبح، كما هي الساحة، معلما عاما وصديقا للجميع، خاصة للعراقيين الذين رأى فيهم ما يواجه سياسة حكومة بلده التوسعية الامبريالية. فاختار اسلوب الاعتصام الدائم من اجل السلام والعدالة في فلسطين والعراق وافغانستان، حتى لحظات حياته الأخيرة، عندما غادر موقع اعتصامه، بمواجهة البرلمان البريطاني، مجبرا للعلاج في احدى المستشفيات الالمانية اثر اصابته بمرض سرطان الرئة.
كان صديقنا براين متزوجا وأبا لسبعة اطفال ومسيحيا مؤمنا، يؤم الكنيسة بانتظام ويعيش حياة عادية هادئة، حاله حال معظم البريطانيين الى ان اطلع، ذات يوم، في عام 2001، على نتيجة الحصار الذي ساهمت الحكومة البريطانية في تكريسه، ضد الشعب العراقي. وبكى براين، وهو الأب لسبعة اطفال، حين قرأ جواب وزيرة الخارجية الامريكية مادلين اولبرايت عندما سئلت عما اذا كان اسقاط نظام صدام حسين يستحق قتل نصف مليون طفل عراقي، فقالت ببرود: 'نعم، انه يستحق ذلك'. بكى براين الذي يؤمن بان الدين وجد لحماية الانسان وتوفير السلام، وليس كما يدعي منافق الدين والتدين، توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني، الذي عمل كل ما في وسعه لشن الحرب على العراق، طمعا في نفطه ولحماية إسرائيل، بعد ان ساهم في قتل الاطفال وتخريب الاقتصاد وتجويع الناس في سنوات الحصار المريرة القاسية، في ذات الوقت الذي كان يلقي فيه المواعظ على الناس حول التسامح الديني ومتقربا من جورج بوش في حربه ' الدينية' ضد الشعوب. شعر براين بأن البكاء لوحده ليس كافيا، وان اجترار الحزن لن يفيد الضحايا، وان عليه ان يقوم بعمل ما، مهما كان حجمه، للاحتجاج على جريمة حكومته ضد الشعب العراقي. فنصب خيمة، بحجمه، ليبدأ اعتصامه في ساحة البرلمان، بمواجهة المبنى التاريخي المشهور بأنه محتضن أعرق ديمقراطية. ليبدأ رحلة عشر سنوات، من الاحتجاج والتعرض للمضايقات البوليسية والاعتقال والتقديم الى المحاكم، منتقلا بحياته من بيته الدافىء حيث كان محاطا بأطفاله وزوجته الى الاعتصام في خيمة متحملا الامطار والثلوج وانعدام اساليب الراحة اليومية، لا يغادرها الا للذهاب الى المرافق العامة في النفق القريب المؤدي الى محطة القطار النفقي القريبة. كان يعتمد في طعامه على ما يجلبه الاصدقاء له، وكان وجهه يضيء بفرحة حقيقية عندما يزوره شخص يقول له: أنا عراقي'، لتنهمر دموعه بعد وهلة لما اصاب اطفال العراق، معتذرا من العراقيين، وكأنه، لفرط حساسيته واحساسه بالمسؤولية الاخلاقية، هو الذي أمطر العراق باليورانيوم المنضب مسببا تشوهات الاطفال وانتشار الامراض السرطانية. قدمت له، مرة بقلاوة. قال انه لا يحب الحلوى، ربما لانه يدخن أكثر مما يأكل. قلت له انها بقلاوة عراقية، من بغداد. فتناول قطعتين فورا واحتفظ بالبقية، كما لو كانت كنزا، في خيمته. وكان الصديق الدكتور العراقي ابراهيم صالح، الناشط في حركة السلام، أحد زوار براين الدائمين، يجلس معه على الارض، يأكل معه، راويا حكاياته المحببة عن مدينته البصرة والخراب الذي زحف اليها والعراق برمته. وكانت مجموعة ' اصوات في البرية' التي زار افرادها العراق، عدة مرات في التسعينات وحتى عام الغزو، محاولين كسر طوق الحصار، سندا معنويا لبراين في صموده بمواجهة محاولات الشرطة الدائمة لاجباره على الرحيل والتخلي عن اعتصامه.
بمرور الايام والاشهر والسنوات، اتسعت الفسحة التي احتلها براين بمواجهة البرلمان حيث بات جزءا لايتجزأ من المكان، يمر عليه اعضاء البرلمان المؤيدين لما يفعله ويتجنبه آخرون. علق براين على السياج الحديدي، خلف الخيمة، لوحات وملصقات، باحجام مختلفة، توثق جرائم الحكومة البريطانية وأمريكا ضد العراق اثناء الحصار وفيما بعد اثناء الغزو والاحتلال والهجوم على المدن، خاصة الهجوم على مدينة الفلوجة وما سببه استخدام اليورانيوم المنضب والفوسفور الابيض من امراض وتشوهات للاجنة والنساء. كان كل ما يمس الاطفال جرحا جديدا يضاف الى جروحه. أصبح وجوده، بقبعته المزينة بشعارات السلام والمحبة، تذكيرا مستمرا لاعضاء البرلمان الديمقراطي والحكومة بما اقترفته ايديهم عندما وافقوا على شن حرب غير شرعية وغير اخلاقية أو عندما صمتوا ولم يفعلوا شيئا لوقفها. وكان لمأساة الشعب الفلسطيني مساحتها ايضا. ومع ازدياد شهرة براين والاهتمام الاعلامي والشعبي به وانضمام آخرين اليه، لبضع ساعات يوميا، من بينهم عدد من نساء منظمة 'اضراب النساء العالمي'، أدركت الحكومة البريطانية بأنه لم يعد مجرد رجل 'غريب الاطوار' أو 'مجنون' من الافضل تجاهله حتى يغادر المكان من تلقاء نفسه بل انه بات مصدر ازعاج يهدد سمعتها ويجب التعامل معه بجدية. فتم اقتياده الى المحكمة المرة تلو المرة باتهامات من بينها: عرقلة سير المارة على الرصيف. غير ان القاضي اصدر حكما لصالحه. وفي 2003، أوصت اللجنة القانونية في مجلس العموم باجراء تغيير قانوني يمنع التظاهر غير المجاز رسميا في مناطق تعتبر ذات أهمية أمنية. وفي 2005، وصف رئيس الوزراء توني بلير بانه مصدر ازعاج يجب التخلص منه وجاء التعليق ردا على وضع براين ملصقات تمثل وجه توني بلير بانياب تسيل منها دماء الاطفال. فتم، لمواجهة اصرار براين على البقاء في الساحة باعتبارها ملكا عاما للشعب، اصدار تشريع قانوني يمنع الاحتجاج والتظاهر ضمن محيط كيلومتر واحد من البرلمان بدون اذن من الشرطة. واستمر براين صامدا، الليلة بعد الليلة والنهار بعد النهار، ليصبح رمزا وضميرا حيا من اجل العدالة والسلام . ولم يتزحزح قيد انملة عن مبادئه وان غادر مكانه في الثلاثة اشهر الاخيرة قبل وفاته في 16 حزيران / يونيو من العام الحالي للعلاج فقط. في رسالة مؤثرة، كتبها الصديق المعماري نيكولاس وود (عمل في الثمانينات في مجال صيانة البيوت الاثرية في بغداد)، ونشرت في صحيفة 'الاندبندنت' البريطانية، يقول نيكولاس بانه 'في يوم ما، سيعتبر براين الشخص الوحيد العاقل في هذا البلد لأنه رأى قبل أي شخص آخر، في عام 2001، ما كان يجري باسمنا لأطفال وامهات العراق والجينوم البشري. اذ رأى كيف دفع الجهل والجشع الأعمى ساسة مثل هون (وزير الدفاع السابق) وتوني بلير بلير الى استخدام أسلحة اليورانيوم المنضب لفرض ما يسمى بالقيم الغربية على الناس... وها نحن نشهد ، بعد عشر سنوات، ان ما قاله هو الحقيقة... وقد قلت له، مرة، عندما لاحظت اكتئابه، في يوم من الايام، سيتم نصب تمثال لك في هذه الساحة، مستندا الى عكازيك، واقفا بتحد ضد هذه البرلمان الجاهل'. ان اشخاصا، مثل صديقنا الراحل براين هاو، هم الذين يبقون الأمل مضيئا في دواخلنا عن امكانية اقامة علاقة انسانية حقيقية بين الشعوب، بعيدا عن الاستغلال والعنصرية والرغبة بالانتقام
.