Saturday 5 January 2013

العراق: مقايضة الدين بالمساعدات الانسانية

02/09/2011
غالبا ما يرى الغرب شعوبنا كصورة نمطية جاهزة، تتسم بانها عاطفية، لحمتها ونسيجها حس المؤامرة تجاه الغرب، مما يجعلنا عاجزين عن التفكير العلمي واتخاذ القرارات السليمة. ومن بين المواقف التي نلام عليها تمسكنا بالهوية الوطنية، على اختلاف مكوناتها من مكان وتاريخ ولغة ودين، ورفضنا العام لاي تدخل خارجي وشكنا بنوايا الغرب سياسيا واقتصاديا. ومن البديهي ان وجود الخطر الخارجي، وهو ما قد يكون مختلقا لتسويغ الاستبداد، يزيد من التقوقع بحيث يؤدي الى القطيعة وانقطاع اواصر الارتباط بالعالم الخارجي وسد منافد العقل المؤدية الى بناء جسور التواصل الحضاري وتطويرها. ويعيد بعض مثقفينا تدوير الصورة النمطية الجاهزة عنا بيننا وكأنها من بنات افكارهم، مع اضافة بهارات التخلف الذي يعيده البعض الى عصر الفتوحات الاسلامية باعتبارها سببا للتخلف.
اجدني وانا المقيمة في الغرب منذ عقود، اتساءل عما سيحدث لو اننا نظرنا الى هذه الصورة النمطية، بشكل معكوس، كما في المرآة ؟ ماذا لو فككنا العناصر التي بنيت عليها صورة ' تخلفنا' وما اسست عليه صورة 'حضارتهم'، آخذة بنظر الاعتبار انني اتحدث عن الصورة العامة المتداولة اعلاميا وشعبويا، حيث يكمن خطر النزوع الى استغلال المشاعر الجماعية على الرغم من اعترافنا بوجود شريحة مثقفة، لدى كل من الطرفين، تنظر ابعد من الإعلامي الآني والشعبوي.
أول ما نرى عند النظر الى الآخر، وجود امثلة وافية تبين ان الغربيين انفسهم يخوضون الحروب دفاعا عن وطنيتهم كما يلجأون، في اوقات الازمات والحروب ومع احساسهم بتهديد بلادهم وهويتهم بالتمسك، الى حد المقاومة الشرسة، بعناصر الهوية والانكفاء في محيط ضيق، حرصا على ما يتمسكون به، ويستمرون بذلك حتى بعد فترة طويلة بعد زوال الخطر الخارجي، كما قد يستخدم عامل التخويف من الخطر الخارجي كأداة للاستبداد وهيمنة السلطة. فهل نحن مختلفون أو متخلفون، فعلا، عنهم بهذا الصدد؟ أليس هذا الموقف مشروعا وإنسانيا وتعاونيا؟
واذا ما نظرنا، بالتحديد، الى واحد من الجوانب الاساسية في تشكيل الهوية الفردية والوطنية وهو الدين، لوجدنا انه الجانب المستخدم، حاليا، اكثر من غيره لتحديد ملامح صورتنا. وبغض النظر عن تكامل او تناقض هذا الجانب مع بقية جوانب الهوية، صرنا نتيجة قوة ضخ هذه الصورة (اسلاميين، متطرفين، ارهابيين) في حالة دفاع دائم عن النفس ابعادا للشبهات، في محيط تغيب فيه الوقائع ويتم الاستناد، في تصويرنا، الى سرد مفبرك لصناعة تاريخ البسنا اياه ونحن تأثير 'الصدمة والترويع' العسكري والتدخل 'الانساني'، ونحن لا نزال على قيد الحياة. بل أن تقادم هذه الصورة النمطية يهدد بأنها قد ترسخ كتاريخ رسمي يبحث فيه ابناؤنا بصعوبة عن الحقيقة وتركيباتها العميقة التي لا تختلف عن بقية الأمم، والغربية منها على الأخص.
ولننظر الى واقع الغرب الديني كما هو، الى الولايات المتحدة الامريكية بالتحديد، باعتبارها من تقود 'الحرب على الارهاب'، وهي الحرب التي اختزلت المفهوم المبرر لكل الافعال الخارجة على القوانين والاعراف المحلية والدولية، الى ارتباطها بالاسلام. ولنرى كيف تتعامل امريكا، الدولة المتقدمة ذات الدستور العلماني في مجال الدين. منذ التحضير لغزو العراق، كان الرئيس الامريكي السابق جورج بوش، يرى نفسه نبيا يؤدي مهمة الهية بشن الحرب ضد افغانستان والعراق لتخليص العالم من الارهاب، وفي تصريح له، عام 2005، قال موضحا رسالته: 'خاطبني الله قائلا: جورج اذهب وحرر العراق من الطغيان'.
فلم يسع جورج، الجامع ما بين العنجهية العسكرية والعنصرية والتطرف الديني الاعمى، الا ان ينطلق ليخوض حربه الصليبية محتلا العراق، مسببا قتل مليون مواطن عراقي، مستصحبا معه، بالاضافة الى قوات الاحتلال من عشرات الدول الغربية، المبشرين من المسيحيين المتطرفين المحملين بكتب الانجيل الملونة بيد والمساعدات 'الانسانية' من طعام وملابس بيد اخرى، لتقديمها الى ابناء شعب عانى من الحصار الاقتصادي مدة 13 سنة، المفروض عليه من قبل ذات 'المحررين والمبشرين'. فهل كانت مقايضة الدين بالمساعدات 'الانسانية' مجرد افعال فردية او انها أعم من ذلك؟ وهل كان رد فعل المقاومة في استهداف المبشرين ووضع حد لتواجدهم موقفا مبنيا على حس المؤامرة والانغلاق غير الحضاري 'الاسلامي الارهابي'؟
تجدر الاشارة الى ان 83 بالمئة من السكان في امريكا هم مسيحيون وان 37 بالمئة منهم، اي 102 مليون حتى 2003، هم خليط من الاصوليين واليمين المتطرف. وقد لعب الخليط الاصولي اليميني المتطرف دورا مهما في فوز جورج بوش في الانتخابات الرئاسية مرتين.
ثانيا: الى وقت قريب، اعتقد البعض ان دخول المبشرين الى العراق تم اما بشكل فردي مغامر او كتابعين لكنائس او منظمات دينية غير ان بعض التقارير، الصادرة حديثا، تؤكد 'نظرية المؤامرة لدينا' عن وجود دور منهجي، أيضا، تلعبه الادارة الامريكية، خاصة وزارة الدفاع، في الترويج للافكار الدينية الاصولية بين افراد القوات المسلحة وهو فعل يتنافى، تماما، مع الدستور الامريكي. يقول كريس رودا، مدير مؤسسة حرية الاديان العسكرية، في تقريره بتاريخ 21 آب/ أغسطس، ان مؤسسته بدأت، قبل سنة، التحقيق في كمية الاموال التي تنفقها وزارة الدفاع تشجيعا لنشر الروح الدينية بين افراد القوات العسكرية وعوائلهم. فقد خصصت الوزارة، مثلا، مبلغ 125 مليون دولار للانفاق على برنامج يدعى 'اللياقة الروحية' للجنود حيث يخضع الجندي لاختبارات الزامية لقياس مدى التزامه الديني. وقامت الوزارة بالتعاقد مع جهات معروفة بأصوليتها لتقديم البرامج الفنية، يؤديها فنانون مسيحيون اصوليون، تتضمن اناشيد وتراتيل دينية وقراءة نصوص انجيلية على مسارح في مواقع الجيش او في اماكن اخرى.
وهناك شهادات لجنود عوقبوا بعد ان رفضوا حضور مثل هذه الحفلات. وتدرج المشاريع الدينية تحت الاعتمادات المالية المبوبة 'عمليات التشغيل والصيانة' و'البحوث والتنمية'. وقد خصص مبلغ 30 مليون دولار سنويا لبرنامج آخر اسمه 'الاواصر القوية' يتم من خلاله توفير العطلات للجنود وعوائلهم في المخيمات المسيحية ذات البرامج المدارة من قبل مسيحيين اصوليين فقط والذين لايوظفون الا بعد توقيعهم على وثيقة 'ايمان' يبينون فيها كيف ومتى تم 'انقاذهم' دينيا. ولا تقتصر برامج وزارة الدفاع على الجنود فحسب بل تركز على استهداف الاطفال، سواء في الولايات المتحدة أو خارجها، ليصبح تنصير الأطفال واحدا من أكبر مجالات الإنفاق، حسب كريس رودا في تقريره التفصيلي.
وتعتبر 'كنائس شباب المجتمع العسكري' اكبر متعاقد مع وزارة الدفاع لاستهداف الأطفال والشباب التي ينص بيان مهمتها على ' 'الاحتفال بالحياة مع المراهقين العسكريين، تعريفهم بمانح الحياة، يسوع المسيح، ومساعدتهم على أن يصبحوا أكثر شبها به'. ولا تتورع هذه المؤسسة عن مطاردة الاطفال، اينما كانوا، ووضع قوائم باسمائهم واستخدام انواع المغريات لجذب الاطفال المصنفين تحت عنوان 'الذين لايؤمون الكنيسة'.
وكثيرا ما تستهدف الجهود التبشيرية هذه المسيحيين العرب والشرقيين، وبقية الديانات الأقدم من الإسلام، والتي تعايشت مع الإسلام و شكلت معه نسيجا اجتماعيا عريقا ساهم، تاريخيا، في بناء الحضارة العربية الأسلامية، وقيادة حركة النهضة وبناء الدول الحديثة وحركات التحرير المناضلة ضد الاستعمار الاستيطاني وغيره، بصرف النظر عن الديانات والمذاهب والأثنيات. وطالما استهدفت الحركات التبشيرية المصاحبة، غالبا، لقوات الغزو والاحتلال هذا النسيج الاجتماعي الحامل لفكرة المواطنة استنادا الى المساواة الدينية والمجتمعية مهددة اياه بالتفكك عبر إستنفار القوى والمواقف الاصولية، التي هي في الحقيقة انعكاس لامفر منه لأصولية 'الآخر' الامبريالي العنصري المستغل. وقد أثبتت سنوات احتلال افغانستان والعراق ومن قبلهما فلسطين ان 'الارهاب' هو الابن الشرعي للاصولية الامبريالية، وان اي مشروع أو 'تدخل انساني' يهدف الى تغيير مجتمعاتنا، يجب ان تكون خطوته الاولى تخليص المجتمعات الغربية من اصوليتها الامبريالية.