Thursday 10 January 2013

يوم الجلاء: تحية الى المقاومة العراقية الباسلة

23/12/2011
كما غادر الحاكم العسكري السابق بول بريمر العراق في حزيران/يونيو 2004، قبل يوم من موعده المحدد، غادرت معظم قوات جيش الاحتلال الامريكي أرض العراق قبل موعدها المحدد، متظاهرة بالانتصار. ولى بريمر تحت جنح الظلام بعد ان عين أياد علاوي وكيلا للاحتلال، ليقوم بترويض العراقيين، بالنيابة. فكانت اول مهمة لـ'رئيس الوزراء العلماني' هي اضفاء الشرعية والوجه 'العراقي' على ذبح المقاومة في مدينة الفلوجة، فاستحق لقب 'جزار الفلوجة'. وهو لقب طغى على سجله الحافل في خدمة مختلف اجهزة المخابرات الغربية، بصرف النظر عن كونه أكتسب هذا اللقب بواسطة قوات المارينز الأمريكية بقوتها الجوية وذخيرتها المحرمة 'السرية' وجحافل المرتزقة الأجانب المنفذة لمهمات القتل القذرة.
وان كان علاوي والحق يقال، ليس الوحيد بين شلة حكام 'العراق الجديد' الذين، ان سجل لهم التاريخ شيئا، فهو التفاخر بخدمة العدو اولا وتحطيم بلدهم وابادة مواطنيه ثانيا. اثناء فراره، تحسر بول بريمر على تخليه عن عراق كان يحلم (متماهيا مع حلم كل المحتلين عبر العصور) بتطويعه ليصبح قاعدة دائمة ومنارا لديمقراطية الصدمة والترويع ونقطة اجتياح لسورية وايران، غير انه تدارك حسرته واضعا ثقته بخدم المنازل (مصطلح يطلق على العبد حين يتفانى بخدمة سيده في الحقول فيؤتمن جانبه وتتم ترقيته الى خادم بيتي) ليسلم الاموال بالاكياس والحقائب، نقدا، الى وكلائه في حفل خاص استغرق نصف ساعة فقط بعد ان نصحته شلة المتعاونين بان العراقيين المقيمين خارج المنطقة الخضراء لايؤتمنون.
هذه الأيام، نعيش أيام جلاء معظم قوات الغزو. جلاء ما كان سيحدث، اطلاقا، لو نجحت حكومات الاحتلال المتعاقبة بكسر شوكة ابناء الشعب ليقولبوا على شاكلتها: خدم بيوت. بدءا من حكومة علاوي وحكومة ابراهيم الجعفري الى حكومتي نوري المالكي (بمساعدة طارق الهاشمي) ومقتدى الصدر وأتباعه من التيار الصدري الذين تبرعمت منهم كتلة الاحرار والممهدون، وعمار الحكيم وصالح المطلك وحميد مجيد موسى الذي رضي بتعيينه من قبل بول بريمر عضوا في مجلس الحكم حسب المحاصصة الطائفية، ليدوس بذلك على تاريخ الحزب الشيوعي مرتين. الأولى لأنه تنازل عن جوهره العلماني والثانية لتخليه عن محاربة الامبريالية. والملاحظ، ان ذات الشخصيات التي تعاونت مع الغزاة، من السنة والشيعة على حد سواء، بقيت وفية لهم ولغيرهم، وان غيرت، بين الحين والآخر، اسماء 'الكتل / الاحزاب/ التجمعات / المكونات' أو انتقلت من تآلف الى أخر بين ليلة وضحاها حسب حاجة وطلب السوق . وان نسينا فلن ننسى دور 'الرئيس' جلال الطالباني وبرهم صالح والبارزاني من الحزبين الكرديين، وهم الذين لايجدون غضاضة في اداء دور السمسار لتحويل اقليم كردستان كله بسكانه وغير سكانه في 'المناطق المتنازع عليها' الى قاعدة معروضة للايجار، لأي كان، بشرط توفير حماية توارثهم العائلي للسلطة واستيلائهم على الموارد العامة. من هذه الناحية، انهم النموذج الاقرب الى مبارك مصر وبن علي تونس.
ان جلاء قوات الغزو الهمجية العنصرية، ولو لم يصبح تاما بعد، ما كان سيحدث لولا مقاومة العراقيين الباسلة، رجالا ونساء، وتضحيتهم بحياتهم وهم يوجهون الضربة تلو الضربة الى اكبر قوة عسكرية في العالم ساعدها، في الوقت نفسه، المتعاونون العراقيون من جهة والتضليل الاعلامي العربي والعالمي من جهة أخرى. المقاومة التي وقفت منذ ايام الغزو الاولى وحيدة، أبية، رافعة الرأس، تستمد قوتها من ادراكها بأن الأرض أرضها والشعب شعبها وان الغزاة، مهما كانت قوتهم العسكرية واساليب ارهابهم وترويعهم وفسادهم وشراؤهم الذمم بالعقود والمناصب، راحلون لامحالة. كل مقاتلة ومقاتل يحمل في داخله روح التواصل مع مقاومي الاحتلال تاريخا وحاضرا. في الجزائر وفيتنام وفلسطين ولبنان. ان الغزاة قابلون للاستنزاف على المدى الطويل، بواسطة المقاومة المسلحة والسياسية والاقتصادية والسلمية بنوعيها الأهلي والمدني. ان هذا التنوع في اساليب المقاومة واستدامتها هو الذي حطم اسطورة القوة العسكرية الانكلو امريكية ودعاة القبول بالأمر الواقع واوهام المبشرين باستقبال الغزاة بالازهار والحلوى، لتكلف العدو خسارة مادية بارقام وصلت الى التريلون والتريليونين، وهي أرقام يصعب تصور معناها، وبلغت تكلفتها البشرية عشرات الآلاف من الجنود والمرتزقة ومئات الآلاف من الجرحى المعطوبين عقليا وجسديا بتكلفة ستتحملها الميزانية الامريكية ما داموا احياء. وأدت استمرارية الحرب على العراق وافغانستان الى انهيار الاقتصاد الامريكي، الذي كان مؤملا إيقاف تدهوره التدريجي وقتها عبر النجاح في غزو العراق وإحتلاله الطويل بتحالف إستراتيجي مع قوى محلية وإقليمية مغلفة الاحتلال باكذوبة التحرير وبناء 'الديمقراطية' ونشر السلام.
ماذا عن العراق في مرحلة مابعد الجلاء الناقص اي مرحلة الكولونيالية الجديدة؟ أولا، علينا الاعتراف بأن هزيمة المحتل تعني انتصارا جزئيا وليس كليا بعد. لهذا لم نر ابناء الشعب وهم يرقصون في الشوارع فرحا . فالبلد مهدد بالتمزق الطائفي جراء سياسة وكلاء الاحتلال الطائفيين الفاسدين سنة كانوا أو شيعة الذين كونوا، في السنوات التسع الأخيرة، طبقة من المنتفعين بالمراكز والفرهود والعقود والعقارات. طبقة ذاقت طعم المال السريع فباتت مدمنة عليه ولن تتخلى عنه بسهولة وان رحل سيدها. افراد هذه الطبقة حريصون على كتم انفاس كل من يعارضها حتى ولو كان قد ركب معها ذات القطار الذي اداره المحتل. لهذا ليس مستغربا ان نشهد سلسلة التفجيرات والتصفية اثر الجلاء الجزئي. فكل ' مكون' في حكومة الاحتلال يريد ترويع الجهة المقابلة دفاعا عن وجوده وليستحوذ، قبل غيره، على حصة اكبر من غنيمة العراق. فالعراق بالنسبة اليهم، بعيدا عن الرطانة السياسية الجوفاء ليس الا غنيمة. وحلفاء الامس، الضاحكون بمرح في جلساتهم امام كاميرات اجهزة الاعلام، يطاردون بعضهم البعض اليوم عبر حدود الأقاليم التي تعاونوا على خلقها استنادا الى دستور كتب ليشرعن تفتيت وتقسيم العراق. فطارق الهاشمي (الحزب الاسلامي ثم القائمة العراقية)، مثلا، الذي يدعي تمثيل السنة، والمطارد حاليا بتهمة الارهاب، هو احد ' مكونات' الحكومة الطائفية بامتياز. انه احد المسؤولين الكبار (حتى الاسبوع الماضي حين هرب الى اقليم كردستان) في حكومة ميليشيات تسلط سيف المادة 4 ارهاب على رقاب المواطنين لتعتقل من تشاء وتعدم من تشاء بعد ان تعرضه على شاشة التلفزيون معترفا بكل ما يراد منه في برامج دورية يعاد بثها أكثر من المسلسلات التركية الناجحة. ان عكاز الطائفية الذي استند اليه هو وغيره من يتامى العملية السياسية منخور وها نحن نشهد انكساره. وان بقيت مأساة المواطنين هائلة بكل المقاييس. حيث ارتبطت تفاصيل حياتهم وتزويدهم بما هو ضروري للمعيشة بالبطاقة الطائفية. فالمناطق المختلطة دينا ومذهبا وقوميات، في ارجاء العراق، باتت مقسمة. وتم افراغ العراق، كلية تقريبا، من ابنائه من المسيحيين والصابئة. والمدارس تتبع المناطق بتقسيمها الطائفي والتعيينات الوظيفية مقسمة طائفيا. والمهجرون قسريا داخل البلد وخارجه تجاوز، حسب آخر احصائية، الخمسة ملايين، أي واحد من كل ستة عراقيين، في واحدة من أكثر عمليات التهجير الجماعي وحشية وسرعة. مما يجعل امكانية ان تقوم حكومة المالكي، بطبيعتها الطائفية البحتة واستنادا الى الدستور الطائفي، بتمثيل العراقيين جميعا والدفاع عن الوطن، محض هراء.
ماذا عن السياسة الامريكية؟ علينا الا نخدع بعنوان الجلاء الذي يوحي وكأن البلد قد تحرر تماما من الاحتلال الامريكي مع التأكيد بان الجلاء الجزئي هو خطوة مهمة نحو التحرير. اذ لاتزال ترسانة السفارة الامريكية في المنطقة الخضراء تكتظ بـ 16 ألف جندي ومتعاقد أمني (مرتزقة) ومنتسبي السي آي ايه (المخابرات) وأعضاء فرق المهمات السريعة الخاصة ومسؤولين من وزارة الخارجية والدفاع، وكلهم يتمتعون بالحصانة الدبلوماسية أي الحماية من القانون العراقي. بالاضافة الى وجود تسعة مراكز استراتيجية للرصد وتجميع المعلومات في ارجاء العراق. كما ان تنفيذ بنود معاهدة الاطار الاستراتيجي بين امريكا والعراق يضمن الهيمنة الامريكية في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والمجتمع المدني. وقد تمكنت شركات النفط الاحتكارية من توقيع عقود في اقليم كردستان وبقية ارجاء العراق منحتها ما كانت تريده من حصة في الغنيمة وبعد دفعها عمولات السمسرة الى الوكلاء المحليين. وتهدف الادارة الامريكية بعد جلاء القوات العسكرية الى تعزيز مكانتها بتكلفة مالية وبشرية أقل. حيث سيكون التركيز على فرق المهام الخاصة من النخبة ذات القدرة على الحركة السريعة وبشكل اغتيالات وتفجيرات (فرق موت وعمليات قذرة) على غرار ما شهدته امريكا اللاتينية. وسيكون لدمج القيادة العسكرية بجهاز المخابرات المركزية السي آي أيه وتعيين الجنرال دافيد باترياس، قائد جيش الاحتلال في العراق رئيسا لجهاز المخابرات المركزي (سي آي أيه) وتعيين ليون بانيتا، رئيس جهاز المخابرات السابق وزيرا للدفاع، وتواجد مسؤولي الجهازين في السفارة الامريكية ببغداد، مؤشر مهم للدلالة على نوعية 'التعاون' بين امريكا والعراق، وانعكاساتها على المنطقة في السنوات المقبلة.
وسيكون الانعكاس الاول، بطبيعة الحال، على المقاومة العراقية التي اثبتت حتى الآن مرونتها، في استمراريتها وقدرتها على ابداع مختلف الطرق للنضال ومنها إحتضانها الاعتصامات والتظاهرات واستقطاب الجماهير التي بقيت على الحياد ما دامت لم تستهدف مباشرة. وتعمل المقاومة، كما في كافة حركات المقاومة في العالم، وعلى الرغم من الصعوبات القاهرة التي تواجهها وكل حملات التعتيم والتشويه والتضليل المحيطة بها، على تنفيذ ذات المبادئ الاساسية التي اعلنتها منذ شروعها وأهمها التحرير الكامل من المحتل وما بني على تواجده من طائفية وتمزيق للنسيج العراقي الاجتماعي