Monday 14 January 2013

العراق المتنازع عليه خطابيا

17/02/2012
لكل حقبة سياسية يمر بها العراق، ولعله لا يختلف بذلك كثيرا عن بقية البلدان، لغتها التي تطغى عليها مصطلحات ومفردات تعكس ايديولوجيا المرحلة وعقلية وسلوك السياسيين في السلطة. وهذه المفردات تترك أثرها على الشعب ولغة الحياة اليومية، وتصبح أطرا ومفاهيم سائدة أحيانا، يعاد تدويرها الى الناس بعد تمريرها بمصفاة الايديولوجيا الحاكمة أو السائدة في مجرى تحولاتها. وقد مر العراق بتاريخه الحديث بحكومات مثلت ايديولوجيات ثلاثة احزاب يمكن وصفها بأنها رئيسية.
حيث شهد الشارع هيمنة اليسار الوطني العراقي المعتدل والحزب الشيوعي الى حد ما (1958 ـ 1963) وحزب البعث العربي (1968 ـ 2003) وحزب الدعوة او تحالف الاحزاب الاسلامية الشيعية (2005 ـ حتى الآن). ويمكن تمييز تدهور تدريجي عبر السنين في مصداقية وقيمة الخطاب السائد بالاضافة الى سقوط ساسة الحقبة الاخيرة في هوة واحدة مع غزاة ومحتلي البلد. وهوعامل لا يمكن اغفاله مع ملاحظة وجود مشتركات، في هذه الفترة المديدة، مما يدفع نحو المراجعة النقدية لتأريخ البلد وقواه السياسية في القرن الماضي، وهو ما يقتضي النظر في الواقع اولا.
فاذا ما بدأنا من الواقع الآني لوجدنا انه لم يعد بامكاننا الهرب من مبارزات رطانة اللغة السياسية المهيمنة على كل حدث، مهما كان، سمعيا وبصريا وكتابة. الكل يستخدم ذات المفردات في معظم البرامج التي يتم بثها عبر القنوات المحلية والفضائية العراقية على الرغم من ادعاء الاختلاف في الانتماء السياسي.
الأختلاف الوحيد بين المتحدثين من ساسة ومحللين سياسيين ورجال دين/سياسيين هو سرعة الألقاء والمهارة في تناول كل الموضوعات، بنفس واحد، بلا نقطة او فارزة. وعلى الرغم من ان الرطانة السياسية وصياغة المفردات وفق الايديولوجيا ليست شيئا جديدا على الساحة العراقية او العربية الا ان انتشار وسائل الاعلام والبث غير المنقطع لمدة 24 ساعة، يوميا، أدى الى ولادة نوع جديد من الساسة الذين تتاح لهم فرصة الحديث، لفترات طويلة، حسبما يريدون مهما كانت اسئلة مقدمي البرامج. فأجهزة الاعلام العربية جائعة لوجودهم مهما فعلوا وأوقات البث متوفرة بالمقارنة مع ما كان عليه الوضع الاعلامي، حتى بداية الثمانينات او التسعينيات. لهذا، يستمرىء ساسة 'العراق الجديد' الرطانة السياسية لتغطية الكذب وتزوير الحقائق وهم يسوقون مصطلحات ومفردات، قد يمس بعضها، حاجات الشعب الحقيقية مثل الديمقراطية وحقوق الانسان والوطنية. ومن بين المفردات الشائعة منذ الاحتلال في 2003 ومع صعود التحالفات الطائفية الى الحكم، واستشراء الفساد والخلافات الدموية بين احزاب العملية السياسية وميليشياتها، وسياسة الاتجاه نحو تقسيم العراق، نلاحظ تكرار الآتي: الاقاليم، أقاليم المحافظات، معسكرات اللاجئين، الكتل والكيانات، الطائفية، الحدود المرسومة، الحدود المتنازع عليها، الوطنية، الشفافية، اختلاسات المليارات، الصراع بين القوميات والطوائف المختلفة، الاطراف المعنية، الصيغ التوافقية، الاقتتال الطائفي، المصالحة الوطنية، حكومة الشراكة الوطنية، حكومة الاغلبية الشيعية، المظاهرات المليونية، الزيارات المليونية، الاقلية السنية، تشكيل اللجان لمراقبة عمل اللجان، روح إيجابية معتمدة الدستور أصلاً وقاعدة لإيجاد الحلول لكافة المشاكل، الأرهاب، الكهرباء، الارامل، النظام المقبور، الميليشيات، اجتثاث البعث، تفجيرات وسيارات مفخخة، انتحاريون، القاعدة والتكفيريون، لجنة النزاهة، استقلال الجهاز القضائي، المرجعيات الدينية، آيات الله (ام ظلهم)، سماحة السيد القائد (ام عزه، اشهار التوبة والرجوع الى احضان الدين، والصداميون والارهابيون. واعتقد ان قراءة خطاب نوري المالكي 'رئيس الوزراء وقائد القوات المسلحة والوزير وكالة لعدد من الوزارات' الذي القاه يوم الخميس 24 شباط/فبراير 2011، قد تساعد على فهم العقلية الكامنة وراء مصطلحات ساسة النظام الحالي، حيث وصل مرحلة متقدمة في تزييف الحقائق عبر رطانة ضرورية لحماية نظام قمعي يخشى غضب شعبه. وهو خطاب ألقاه عشية خروج ما يزيد على ستة آلاف متظاهر، في ساحة التحرير، ببغداد مطالبين بالاصلاحات ووضع حد للفساد وانهاء الاحتلال الامريكي. فقام وبدعم من فتاوى مرجعيات دينية، بالتحذير الترويعي المعتاد في التعامل مع الجماهير، وكأنهم حفنة اطفال، محذرا من تحول المظاهرات الى 'مظاهرات قتل وشغب وتخريب واشعال فتنة يصعب السيطرة عليها وتفجيرات واحزمة ناسفة'.
واذا ما عدنا الى مرحلة ما قبل الاحتلال، فإن خطاب حزب البعث طغت عليه مفردات وشعارات تعكس حالة الحرب شبه الدائمة التي عاشها الشعب العراقي أو التأهب لخوض حرب مع الاعداء بالاضافة الى تكريس موقع 'القائد' وألقابه.
ومن بين المفردات المتداولة: القائد الضرورة، القائد الفذ حفظه الله ورعاه، السيد الرئيس القائد، الخطة الانفجارية، الحملة الايمانية، العوائل المتعففة، مبايعة الرئيس، ثورة 1968، الوحدة والحرية والاشتراكية، الامبريالية الامريكية وحلفائها، الكيان الصهيوني، الخمينية ومعاداة العرب، الشعوبية، الفرس المجوس، الطبيعة العدوانية للحركة الصهيونية والعنصرية الفارسية بالارتباط مع الماسونية والشعوبية والطائفية والامبريالية، العراقيون الاماجد، العراقيات الماجدات، الجيش الشعبي، الغوغاء، مؤامرات قوى الشر، العدوان الثلاثيني من أم المعارك، الله اكبر.. وليخسأ الخاسئون.
وكان للحزب الشيوعي تأثيره الكبير على شعارات ومفردات المرحلة التالية لثورة 14 تموز (يوليو) 1958، ومن بينها: الزعيم الاوحد، ابن الشعب البار، العهد الملكي البائد، محكمة الشعب، المقاومة الشعبية، المد الثوري الجماهيري، التآمر، صيانة الجمهورية، منظمات السلام والديمقراطية، حمامة السلام، الامبريالية والرجعية، التخلف والقوى الرجعية، حبال السحل، التيار القومي الانعزالي، التيار القومي الشوفيني، النضال من اجل السلام العالمي، البرجوازية الوطنية، مصالح الامبريالية في المنطقة، البلدان المحبة للسلم وفي طليعتها الاتحاد السوفييتي، وطن حر وشعب سعيد.
وتنقلنا مفردات وشعارات المراحل السياسية المختلفة، وهي تستحق الدراسة والبحث أكثر من الاشارة السريعة، الى مدى نجاحها أو فشلها في استقطاب الجماهير الشعبية.
الملاحظ، وهنا المفارقة، ان كل حقبة تدعي تمثيل او استقطاب الجماهير المليونية. فمن بين مصادر الحزب الشيوعي، يتبين بأن اختتام مؤتمر مندوبي حركات السلم من جميع انحاء العالم المنعقد، ببغداد، تحت شعار 'السلم وصيانة الجمهورية' انتهى بمسيرة السلام الكبرى يوم 18 نيسان (ابريل) 1959 التي استغرقت نهارا كاملا وضمت حوالي مليون شخص. وفي ظل نظام البعث، يذكر 'أن 6.5 مليون عراقي تطوعوا في عام 2001 تلبية لنداء صدام حسين في تشكيلات جيش القدس للقتال مع الشعب الفلسطيني ضد إسرائيل'.
اما نظام حزب الدعوة الحاكم، حاليا، فانه تمكن من كسر مليونية الحشود في الحقب السابقة، لا عن طريق مسيرات السلام او تشكيل جيش للقتال مع الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال، ولكن عن طريق الزيارات الشعائرية الحسينية الى مدينتي النجف وكربلاء.
وتتراوح الارقام الرسمية المعلنة من قبل ساسة حكومة التحالف الشيعي حول عدد الزوار لإحياء ذكرى أربعينية الإمام الحسين ما بين (9 16) مليون، وهو رقم خيالي يضرب بعرض الحائط المقاييس العقلية والجغرافية، مما يجعل حجم التظاهرات 'المليونية' التي يدعو اليها مقتدى الصدر، رئيس التيار الصدري، بين الحين والآخر، في حالة يرثى لها.