Sunday 1 June 2008

ممارسات المثقّف الليبرالي في العراق المحتلّ

al-akbar.com
الأخبار-عدد الاثنين ٢٤ كانون الثاني ٢٠٠٨
لم يقتصر غزو العراق على المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية، بل كانت له امتدادات إلى خطّ الدفاع الثاني لأي بلد: الثقافة المجتمعية والأدب والإعلام. غير أنّ ضعف الغزاة، في هذا المجال، كان أشدّ ممّا توقّع الكثيرون منهم. لاحظنا مثلاً، أن الإدارة الأميركية قد انتبهت، في فترة متأخّرة بعد الاحتلال، الى أنّ من أهمّ أسباب فشلها العسكري والسياسي في العراق، هو قصور معرفة عسكرها بالثقافة المجتمعية الحضارية للعراق. فشرعت، تعجيلاً لتحقيق الانتصار، بإقامة دورات لجنودها، وخاصة لنخبتها من «المارينز»، للتدرّب على «الثقافة المجتمعية العراقية»، وذلك ابتداءً من تموز 2007، أي بعد مرور أربع سنوات ونصف سنة على الغزو.لكن اهتمام الإدارة الأميركية، ورديفتها المؤسّسة الصهيونية التي أقنعتها بأنها «خير من يعلم» بالثقافة عندنا، بالتعامل مع المثقّف العراقي، يعود الى فترة أبكر، أي الى بداية التسعينات. وكانت مساحة الاهتمام أكبر من مجرّد تعليم المارينز أن يقولوا «السلام عليكم»، والجلوس على الأرض ليأكلوا مع شيوخ العشائر، وأكبر من كتابة القصيدة والقصّة، لتتجاوزها إلى «خلطة» ساهمت في صناعة مثقّف الاحتلال، أي المثقّف الليبرالي الجديد الجامع في تكوينه بين مواصفات الكاتب السياسي المعارض للنظام السابق ــــــ البراغماتي ــــــ المؤمن بحقّ الديموقراطية الأميركية في نشر ديموقراطيتها ولو عن طريق شنّ الغزو العسكري. إنّه المثقّف التابع الذي يردّد مثل سيّده أنّ «للديموقراطية ثمنها الباهظ» أي تسويغه لقتل مليون مواطن عراقي.تدريجياً، صار لبرامج الإدارة الأميركية ومبادراتها، على عدم وضوحها، أعداد من مثقّفي الاحتلال الليبراليّين الجدد، صنو المحافظين الجدد، تقدّمهم بين الفينة والفينة كوجوه ضرورية لإضفاء النكهة العراقية على منظومتها أثناء مرحلة التخطيط للغزو وبعده، لتحقيق الهيمنة الثقافية ضمن برامج «بناء الديموقراطية والمجتمع المدني». هنا، بات مثقّف الاحتلال معروضاً للبيع والشراء كسهم في بورصة الاحتلال، متخلياً بإرادته ــــــ لا تحت قمع نظام دكتاتوري كما برّر البعض تأجير أقلامهم وأفعالهم في السابق ــــــ عن الصفة التي كثيراً ما لازمت المثقّف الإنساني المتلاحم مع قضايا أمّته ونضالاتها، عبر العصور في العراق، بأنه «ضمير الأمة» و«بوصلتها الأخلاقية».وللمثقّف الليبرالي الجديد، وخاصة من كان معارضاً وعاد مع الاحتلال، صلة وثيقة بمخطّط الاحتلال. وجوهر الصلة هو التمويل المادّي بشكل مباشر أو غير مباشر. والإدارة الأميركية، والحقّ يُقال، سخية في تمويلها لأي مشروع أو برنامج يحقّق لها النصر السريع في العراق، وقد أصبحت ميزانية التمويل والدعم لبرامج الديموقراطية، وهي برامج شاملة للأوجه المجتمعية الثقافية، جزءاً لا يتجزّأ من الميزانية المكرَّسة للبرامج السياسية والعسكرية، لتصنيع نموذج مثقّف الاحتلال الملائم للعراق الجديد. وعلى الرغم من اختلاط الحابل بالنابل في تطبيق السياسة الأميركية في العراق، إلا أن الخطّ الذي تبلور تدريجياً، إزاء فشل الأحزاب والتنظيمات السياسية في استقطاب الناس وبالتالي توفير القاعدة الاجتماعية المطلوبة للمخطط الإمبريالي التوسعي، هو احتواء المثقّف الليبرالي في برنامج تأسيس منظمات المجتمع المدني. وهو البرنامج الذي وصفه وزير الخارجيّة الأميركي الأسبق كولن باول، في أعقاب الحادي عشر من أيلول، بأنه «ذراع المواجهة الثانية بعد القوات العسكرية». وأعاد التذكير به روبرت غيتس، وزير الدفاع الحالي، مصرّحاً في تشرين الثاني 2007، بعدما أعلن أنّ «القوة الناعمة» لها أهمية القوة العسكرية نفسها لكن ميزانيتها عُشر معشارها، «علينا تركيز جهودنا على عناصر القوة الوطنية الأخرى التي ستكون حاسمة في السنوات wwالمقبلة»، مؤكّداً أهمية توظيف الأكاديميّين والتكنوقراط في كل المجالات، مخصّصاً ميزانية 45 مليون دولار للبدء ببرنامج استكشافي للعراق وأفغانستان تحديداً. ويمكن التكهّن بأن الخزائن ستفتح أكثر من السابق. وكان حاكم العراق بول بريمر قد خصّص مبلغ 750 مليون دولار لبناء منظّمات المجتمع المدني عشية تسليمه «السيادة» إلى ايّاد علاوي.وقد أثبتت مظلّة تأسيس المنظمات غير الحكومية وبناء المجتمع المدني المموَّل أميركياً أو وفق معايير السياسة الأميركية، أنّها المعطف الأصلح لمثقّف الاحتلال الليبرالي، حيث أتاحت له فرص تغيير المعاطف بلا حرج، متنقّلاً بخفّة طائر الخُطّاف من منظّمات ثقافة حقوق الإنسان (مختصاً بجرائم النظام السابق فقط)، والدعوة الى إيقاف العنف ضدّ المرأة (من جانب الإسلاميين والإرهابيين فقط)، وتدريب العراقيّات القياديات (اللواتي يعملن ضمن عملية الاحتلال السياسية فقط)، إلى إصدار الصحف والمجلات وتأسيس اللجان الثقافية وإقامة المهرجانات الثقافية، وكلّها تدعو العراقيّين الى نبذ العنف ليسود السلام والوئام في العالم، وكأنّ العراقيّين هم الذين غزوا أميركا وبريطانيا وبولندا وأوستراليا وبقية الدول المتعدّدة الجنسيات، واحتلّوها وارتكبوا أبشع الجرائم بحقّ شعوبها وانتهكوا أعراض نسائها.ومن المفارقات المضحكة ــــــ المبكية لعراق الاحتلال أن معظم مثقّفي الاحتلال الناطقين باسم البراغماتية الواقعية، المصرّين حتى على عدم ذكر كلمة الاحتلال، خشية تجاوز خطوط الرقابة الحمراء المعشّشة في رؤوسهم، هم من الشيوعيّين الذين كثيراً ما طبّلوا وزمّروا لنضال الشعوب ضدّ الرأسمالية الأميركية وجشعها الاحتكاري وتجنيدها للكومبرادور والعملاء المحليّين. وقد تابعت الصحافة بعض نشاطات التروتسكي السابق كنعان مكية، ذي العلاقات الإسرائيلية المعروفة، لكن هناك من لم يُكتب عنهم بأي قدر من التفصيل، كمهدي الحافظ، الوزير والوكيل والنائب، وفالح عبد الجبار، مدير معهد الدراسات الاستراتيجية ومقرّه بيروت. وهناك في طبقة مستشاري «الرئيس العراقي» سرب من ذوي التاريخ الشيوعي يشمل صحافياً مثل جلال الماشطة الذي أدار لثلاث سنوات تقريباً مؤسّسة الإعلام العراقي الرسمي تحت الاحتلال، والمستثمر الإعلامي فخري كريم المرتبط اسمه بأدوار مختلفة.ويحتلّ الأخير مركز الصدارة في تسويق خطاب الاحتلال من خلال صحيفة «المدى» التي ارتبط اسمها بفضيحة نشر مقالات مكتوبة من جانب ضباط وجنود الجهاز الإعلامي الاميركي، وترجمت لتُنشر في عدد من صحف العراق الجديد «المستقلة» مثل صحيفة «المؤتمر» لصاحبها أحمد الجلبي. وذكرت صحيفة «لوس انجلس تايمز» أن «المدى» تلقّت مبلغ 900 دولار لنشر أحد المقالات المروّجة لخطاب الاحتلال الطائفي والمترجمة بعنوان «الإرهابيون يقتلون متطوّعين من السنة».ويحتلّ فخري كريم، الشيوعي ــــــ الليبرالي، حيزاً كبيراً في كتابات بعض أعضاء الحزب الشيوعي ومقالاتهم، ممّن يرون في أعماله ونشاطاته نموذجاً لكلّ ما هو غير شيوعي وإنساني، كما جاء في كتاب «سفر ومحطات: الحزب الشيوعي، رؤية من الداخل»، لشوكت خزندار وهو كادح شيوعي وصفه باقر إبراهيم الموسوي، الشخص الثاني في الحزب طوال 30 عاماً، بأنه «المناضل الشيوعي الكردي». وتكشف مقالات الكاتب جمال محمد تقي، وهو من الشيوعيين الأنصار المقاتلين ضدّ النظام السابق، بعض الخفايا ذات العلاقة بصاحب «المدى» واصفاً أفعاله «وكأنه يكرّر نفسه أينما حل وارتحل»، فضلاً عن آخرين من مثقّفي الاحتلال. هذه في أغلبها صفحات من تاريخ الحزب الشيوعي في السبعينات والثمانينات، لا شكّ أن لها تتمة لم تسجَّل بعد بالتفصيل عن فترات الحصار والغزو والاحتلال.إنّ هذه المنظّمات والمؤسّسات التضليلية ومثقّفيها الليبراليّين و«ضيوفهم»، أدوات لاستمرار جرائم الاحتلال البشعة وانتهاكاته، إمّا عن طريق العمل الترويجي المباشر لخطاب الاحتلال، أو صمتاً أو تمويهاً وتضليلاً عن طريق حجب الحقيقة. وهم يذكّرونني برسالة تلقّيتها من الصديق الشاعر والقاص محمود البياتي قال فيها: «ذكّرني مقالك الأخير عن الصمت بشأن مأساة أطفال العراق بنقاش مع أحد المعارف في فترة الحصار الممهّد للحرب». قلت له إن تقريراً صادراً عن إحدى لجان الأمم المتحدة يؤكّد وفاة آلاف الأطفال العراقيّين من الجوع والأمراض وعدم توافر الدواء، قال: هذه دعايات صدام حسين، أتحدّاكِ أن تذكري لي اسم طفل عراقي واحد من الذين ماتوا!قلت مازحةً: عبد الرزاق الفرحان، قال: لم أسمع بهذا الاسم!