Thursday 12 February 2009

استراتيجية الشركات الاحتكارية واسباب خيانة الوطن

05/10/2008
قرأت خلال الاسبوع الماضي نداءين مهمين. النداء الاول وجهه الدكتور عصام الجلبي، وزير النفط العراقي السابق، الذي اتيحت لي فرصة حضور واحدة من محاضراته عن قانون النفط والغازالجديد، في جامعة لندن، خلال الصيف الماضي. والنداء الثاني وجهته صحافية عراقية لم اسمع بها من قبل. كلا النداءين يتعلقان بصناعة النفط والغاز. 
يقول عصام الجلبي، في ندائه الموجه الى العراقيين جميعا، بحرقة قلب، بان التبصير وتوضيح الحقائق 'والكشف عما يجري تحت أقنعة كاذبة من خطط للتنازل عن ثروات العراق النفطية والغازية وأناطتها من جديد لأيد أجنبية والتنازل عن جزء كبير من ايرادات العراق بحجج الحاجة للخبرات والرساميل الأجنبية والتكنولوجيا ... أمانة في أعناق كل من عمل أو واكب صناعة النفط العراقية على مدى ثمانية عقود من الزمن'.
وشهادة عصام الجلبي بالغة الاهمية لانها شهادة خبير نفطي وطني حريص على صناعة النفط العراقي حاضرا ومستقبلا وهو لا يكتب او يتحدث من منطلق سياسي متقلب آني أو عاطفي بل يستند الى الوثائق والعقود والمعاهدات والقوانين الدولية وربط ذلك كله بمصلحة عموم الشعب العراقي. 
ان تسارع الاحداث السياسية والعسكرية والاقتصادية في العراق المحتل وما يحيطها من تعتيم وتضليل اعلامي فضلا عن حجب الحقيقة لصالح نشر وتهويل الاخبار غير المهمة على حساب الاحداث المؤثرة فعليا، يتطلب منا تمحيص ما يجري وراء عناوين الصحافة واجهزة الاعلام المختلفة. وقد اهتمت اجهزة الاعلام، اخيرا، بقصص الصحوات والقاء القبض على وزير الدولة الاسلامية الفلاني ومستشار الدولة القاعدية العلاني، لتغطية توقيع ما تسمى بالحكومة العراقية العقود النفطية الواحد تلو الآخر بدون احتجاج او اعتراض او حتى استشارة ابناء الشعب الذي طالما يقال لنا بانه هو الذي انتخب الحكومة الحالية. ويشير عصام الجلبي الى هذه الحقيقة في ندائه قائلا:' تستمر خطط احالة عقود حقول النفط والغاز الى الشركات الأجنبية بوتيرة متسارعة تبعث على التساؤل مع غياب أي حديث عن تشريع قانون جديد للنفط والغاز .فبعد أن سارع اقليم كردستان بتوقيع 22 عقدا غالبيتها خلال فترة أسابع قليلة من العام الماضي وبدون أي دور للحكومة المركزية بل وحتى لبرلمان الاقليم (بحجة أن قانون الاقليم للنفط أعطى الصلاحية المطلقة لحكومة الاقليم)... باشرت وزارة النفط العراقية تنفيذ خططها وبشكل متسارع من أجل التعاقد مع الشركات الأجنبية لا تقتصر فقط على الحقول المكتشفة وغير المطورة بل أنها وضعت في أولوياتها حقول النفط المنتجة العملاقة والتي بقيت مستمرة بالانتاج على مدى عشرات السنين وما زالت تحتوي على الجزء الأعظم من الاحتياطيات النفطية.. وتتسابق الشركات الأجنبية وعلى رأسها كبرى الشركات العالمية التي تم تأميم عملياتها في العراق خلال الفترة 1972 1975 من اجل اعادة سيطرتها على الجزء الأكبر منها.'
ويسجل الجلبي ملاحظاته التفصيلية حول ما أبرمته وزارة النفط مؤخرا من اتفاقيات وما تنوي القيام به خلال الأسابيع المقبلة، بدءا من بعض العقود التي صادق عليها مجلس الوزراء حتى بدون الأطلاع عليها بالكامل كما في العقد مع الشركة الصينية بصدد حقل الاحدب في محافظة واسط، ومرورا بما يسميه عقد (التنازل) عن نصف الغاز في الجنوب الى شركة شل البريطانية الهولندية، الذي يتم بموجبه ' منح شركة شل 49% من حقوق استثمار الغاز المصاحب المنتج من الحقول الجنوبية والذي يقدر حاليا بـ700 مليون قدم مكعب يوميا ويمكن أن تتضاعف في حالة تطوير انتاج الحقول. وتم ذلك من دون أي مناقصة بل من خلال تفاوض مباشر مع شل'. ويوضح الجلبي بان ما يطرحه بعض المسؤولين باعتباره عملية انقاذ لوقف حرق الغاز ما هو الا اكذوبة لخداع الناس فخطوات ' تنفيذ مشاريع استثمار الغاز كانت قد بدأت من قبل العراقيين انفسهم منذ منتصف الستينات كما في معمل التاجي ولاتزال انابيب نقل الغاز كركوك ـ التاجي عاملة ليومنا هذا. كما تم في منتصف السبعينات تنفيذ مشروع المرحلة الأولى من غاز الجنوب وبشكل مستعجل لغرض جمع غاز المرحلة الأولى من الغاز المصاحب وتجهيزه الى معمل لانتاج الغاز السائل تم انشاؤه في الزبير ومن ثم ايصال الغاز لعدد من المشاريع الصناعية (الأسمدة والورق والبتروكيمياويات والحديد وغيرها) وعدد من محطات الكهرباء مثل النجيبية والناصرية وغيرها ضمن انبوب لنقل الغاز مواز للخط الاستراتيجي الممتد من الرميلة الى حديثة.
وفي نفس الوقت بوشر بتنفيذ مشروع غاز الجنوب العملاق والذي نفذته شركة المشاريع النفطية العراقية منذ 1979 وانجز المشروع بالكامل اواخر الثمانينات وتضمن جمع كافة الغازات ومن المراحل الأربع (المصاحبة لانتاج أكثر من 3 ملايين برميل يوميا من النفط في الحقول الجنوبية) ومحطات كبس الغاز والانتاج (من خلال مصنعين ضخمين في الزبير وشمال الرميلة) لتصنيع حوالي 4.4 مليون طن سنويا من البروبان والبيوتان والغازولين الطبيعي ونقلها وتجميعها في خزانات عملاقة في خور الزبير مع ميناء خاص للتصدير يقع على خور الزبير أيضا. وبلغت الكلفة الاجمالية حوالي ملياري دولار في ذلك الوقت تحملها وسددها العراق بالكامل. وتضمن المشروع تجهيز مصانع البتروكيمياويات والحديد والأسمدة والألمنيوم والاسمنت وغيرها وجميع محطات الكهرباء بالغاز في مناطق كبيرة من العراق.
وقد تم تشغيل المشروع على مراحل وبالكامل وصولا الى تموز 1990 عندما بوشر بتحميل أول ناقلة أجنبية للتصدير ولكنها توقفت وغادرت على عجالة فور غزو العراق للكويت. وبالاشتراك مع غاز الشمال في كركوك، أصبح لدى العراق القدرة على استثمار حوالي 95% من جميع الغازات المصاحبة مع الاشارة الى أنه بالاضافة لما تقدم فانه قد تم بناء الاف الكيلومترات من انابيب نقل الغاز الطبيعي والغاز السائل ممتدة من أقصى الجنوب ولغاية منطقة الموصل لترتبط بغالبية المشاريع الصناعية ومحطات التوليد الكهربائية والتي لا مثيل لها ولحد يومنا هذا في منطقة الشرق الأوسط (بالاضافة الى أنابيب نقل المنتجات النفطية من الشمال الى الجنوب ) علما بانه كان قد اتخذ قرار تم تنفيذه منذ عام 1973 بأن لا يتم انشاء أي محطة لتوليد الكهرباء الا بعد توفير وضمان تشغيلها بثلاثة أنواع من الوقود أولها الغاز الطبيعي'. 
ويوضح الجلبي بان كل ما يحتاجه العراق الآن هو ليس تقاسم ثروته الغازية مع شركة شل وعلى مدى عشرين عاما حسب الاتفاق الموقع بل اعادة تأهيل وتصليح المعدات والمنشآت التي تضررت خلال حروب 1991 و2003 وما بينهما من حصار داعيا الى ايقاف التعاقدات والسعي الى اعادة العمل بالصيغ الوطنية السابقة
واحياء الدور الوطني مع الاستعانة بالشركات الأجنبية الهندسية والمقاولة وشراء الخدمات بالاضافة الى الطاقات المحلية بما فيها الخبرات العراقية.
اما النداء الثاني فقد وجهته الصحافية تغريد الحسيني الى وزارة الصناعة بعد ان قامت بزيارة للشركة العامة للصناعات البتروكيماوية لتكتب مقالا بعنوان ' البتروكيماويات .. عجوز تستغيث.. فهل من مجيب؟'، ذكرت فيه بان سبب المشاكل في الشركة هو قدم المعدات الانتاجية وأجهزة القياس وأدوات العمل والصيانة التي لم تجدد بسبب ظروف الحرب والحصار الاقتصادي وأخيراً احتلال العراق... مما ادى إلى اهمال تطوير الشركة وعدم الاكتراث بتطوير القدرات والخبرات الفنية والعلمية للعاملين والمهندسين وخصوصاً جيل الشباب. وتخلص الصحافية الى ان الظروف الصعبة لم تمنع العقل العراقي من الاستمرار في العمل والانتاج رغم مرارة الظروف وضراوة الحرب، موجهة النداء الى ' المسؤولين في وزارة الصناعة للاهتمام بهذه الشركة العملاقة وتطوير الامكانيات الفنية والعلمية للعاملين والمهندسين وتوفير قطع غيار أصلية من مناشئ معروفة عالمياً للأخذ بيد هذه الشركة نحو النهوض . ومواكبة شقيقاتها في المنطقة مثل السعودية وإيران وبالتالي دعم الصناعات الأخرى المعتمدة على هذه الصناعة المهمة ونرفع عنوان (صنع في العراق) عالياً' .
وتدل قراءة النداءين الى ان السبب الحقيقي الكامن وراء تدهور الصناعات وانعدامها وتوقيع عقود واتفاقيات الاستغلال والعبودية من جانب المسؤولين العراقيين هو الفساد المالي الذي جعل العراق، في ظل حكومات الاحتلال المتعاقبة، ثالث اكثر الدول فسادا في العالم. ويذكرني هذا الانجاز بما قاله رئيس مكتب للاستخبارات في واحدة من روايات القاص البريطاني ويليام بويد لاحد موظفيه الجدد موضحا بان اسباب خيانة المرء لوطنه ثلاثة وهي المال والانتقام والابتزاز. مما يجعل ساسة العراق المحتل نموذجا متكاملا لخيانة الوطن ومن الصعب محاكاته. أما من جانب الاستراتيجية الإستعمارية، فلا شك أن إتفاقيات الإستغلال تضمن تبعية الإقتصاد العراقي للمصالح الأجنبية كل قطاع على حدة، ومنع التطور العضوي للكفاءات والقدرات الاقتصادية العراقية.