Friday 19 June 2009

كيف حول سياسيو 'العراق الجديد' التعذيب الى أمر عادي؟

30/05/2009
حدثان مهمان، تزامن الاعلان عنهما في يوم واحد، يمسان حاضر ومستقبل الاحتلال وعملائه فضلا عن ابناء شعبنا. الحدث الاول هو اعلان رئيس هيئة الأركان المشتركة في الجيش الأمريكي الجنرال جورج كايسي، يوم الخميس الماضي، أن ' تخطيطه للوجود العسكري للولايات المتحدة في العراق وأفغانستان يتصور بقاء القوات القتالية في العراق وأفغانستان لعشر سنوات في اطار الالتزام الأمريكي الدائم لمكافحة التطرف والارهاب في الشرق الأوسط'. ويعتبر التصريح واحدا من اوضح الأدلة على حجم الهوة ما بين ما أعلن عنه الرئيس الامريكي اوباما في مرحلة الانتخابات بصدد جدولة الانسحاب خلال 16 شهرا، وما يتم تطبيقه فعليا في مرحلة الرئاسة، تحت ضغوط القيادة العسكرية وأولوية مصالح الشركات الاحتكارية الكبرى على صعيدي صناعة الحرب والسيطرة على مصادر الطاقة.
ويمس الحدث الثاني جانب حقوق الانسان الذي تعتبر امريكا، نفسها، واحدة من دعاته الرئيسيين في العالم، ويقدم عملاء الاحتلال، أنفسهم، باعتبارهم من المدافعين عنها لانهم، كما يدعون، 'بناة العراق الجديد' بديمقراطيته وحقوق انسانه. وكما هو معروف، كان باراك اوباما قد قال سابقا انه يعتزم الموافقة على نشر صور الانتهاكات في معتقل أبو غريب، إلا انه عاد ليتراجع عن موقفه، كما سيتراجع عن قرار الانسحاب، بعد نصيحة تلقاها من كبار ضباط الجيش بعدم السماح بنشر الصور، لما قد تثيره من مشاعر الغضب ضد القوات الأمريكية. وكما هو معروف، ايضا، ان الجنرال الامريكي المتقاعد انطونيو تاغوبا الذي اشرف على تقرير تم إعداده عام 2004 في إطار تحقيق وزارة الدفاع الأميركية في الانتهاكات التي جرت في المعتقل، كان قد أشار في لقاء له مع الصحافي المعروف سيمور هيرش، في النيويوركر، الى 'وقوع حالات اغتصاب بشعة لصبيان ونساء من بين المعتقلين' في ابو غريب. وكان تاغوبا قد ذكر العديد من تفاصيل الانتهاكات المرعبة والمهينة في تقريره وان لم يشر بالتحديد الى وجود صور مرفقة.
ألا انه قال، في لقاء اجرته معه صحيفة 'ديلي تلغراف' البريطانية، يوم الخميس الماضي، إن حالات الاغتصاب والانتهاكات الجنسية التي تم تنفيذها بحق المعتقلين والمعتقلات العراقيين قد تم تصويرها وان هذا هو سبب محاولة اوباما حظر نشرها. وقال تاغوبا إن تقريره تضمن صورا تؤكد وقوع عمليات اغتصاب وانتهاكات جنسية من بينها صور تعرض جنديا أمريكيا وهو يغتصب معتقلة وأخرى لمجموعة جنود يقومون بتعرية فتاة ومترجما امريكيا مصريا يغتصب صبيا، بينما تقوم احدى المجندات الامريكيات بتصوير فعل الاغتصاب. وتعرض صور أخرى انتهاكات جنسية قام بها جنود أمريكيون مستخدمين عصى وهراوات وأدوات أخرى. ويبلغ عدد الصور 2000 عن 400 حالة انتهاك في أبو غريب وستة معتقلات أخرى. ويلخص تاغوبا طبيعة الصور قائلا: 'ان مجرد وصف هذه الصور بشع بما فيه الكفاية. صدقوني'. مالم يقله تاغوبا حتى في مقابلته الجديدة ان الصور تشير الى بعض الحالات وليس كلها. لأن ما لم يتم التقاط الصور له في المعتقلات كان، ولايزال، هو الأبشع والأوسع انتشارا.
ولم تصدر من أي مسؤول أو سياسي عراقي نأمة صوت عن وجود صور حالات الانتهاك الاربعمئة (وهم الذين كانوا يتشدقون ليلا ونهارا بانتهاكات حقوق عوائلهم واقاربهم تحت النظام السابق) او موقف الرئيس اوباما بصدد نشر الصورأو توضيحات تاغوبا الدالة على حجم وبشاعة انتهاكات حقوق الانسان في 'العراق الجديد'، وان كانت ضحكة ' الرئيس العراقي' جلال الطالباني لاتزال ترن في الآذان مستغربا الاهتمام بجرائم التعذيب في ابو غريب قائلا: 'في أيام صدام حسين كانت تجري في السجن أمور افظع من هذه'. وذهب بعض المثقفين ابعد من ذلك حين صمتوا معلنين بذلك رضاهم عما يجري للمعتقلين وتحت ذرائع مختلفة من كونهم 'صداميين' الى 'ارهابيين'. فاصبحت كلمات الطالباني وغيره وصمت المثقفين مؤشرا للقبول باستمرار الانتهاكات والتعذيب في معتقلات 'العراق الجديد' اينما كانت وتحت سيطرة أية قوة كانت، بعد ان تم تحويل جريمة التعذيب البشعة، ضد أيا كان، الى مسألة مألوفة وعادية.
لقد خذل السياسيون العراقيون المنخرطون في عملية الاحتلال السياسية مواطنيهم، مئات المرات، اذا ما نظرنا الى تفاصيل الانتهاكات والاغتصاب والتخريب المتعمد والقتل اليومي والفساد، وما يترتب على ذلك من اهانة للكرامة الانسانية وتحطيم للبنية المجتمعية. غير ان النظر الى الاطار العام، وهو الذي يتم اغفاله عادة، لفرط توالي الكوارث، يقودنا الى تشخيص ماهو أكثر من مجرد خذلان مؤقت أو اخطاء 'عادية أو طبيعية' تصاحب 'الديمقراطية حديثة الولادة'، كما يبرر الساسة افعالهم. انه يقودنا الى جريمتين اساسيتين ترتبطان بحدثي الاسبوع المهمين، ومن الضروري التركيز عليهما، لفهم طبيعة كل ما يجري من احداث سياسية واتفاقيات وتشريعات يروج لها طرفا الاحتلال، الاجنبي والعراقي العميل، الآن ومستقبلا .
تتبين الملامح الاولى للجريمة في تعاون السياسيين وغيرهم، بكل السبل المباشرة وغير المباشرة، مع العدو للترويج وشرعنة الغزو الانكلو امريكي لبلادهم . وهو غزو وعدوان مخل بالقوانين الدولية باعتراف القانونيين الدوليين من البلدان التي شنت الغزو نفسها. ومادمنا بصدد التذكير ببعض المفاهيم القانونية والاخلاقية في عصر تسود فيه حالة الخرف الانتقائي، لعل من المفيد تعريف مفهوم الخيانة. انها، وباجماع الدساتير والمعاجم القانونية، صفة تطلق على كل من يساعد العدو على غزو بلاده أو يسهل عملية الغزو، فضلا عن عدم الولاء للوطن او الاساءة الى سيادة واستقلال الوطن. وهي جريمة تعاقب، في حال ثبوتها، بالاعدام كما في معظم بلدان العالم، وبضمنها البلدان التي شنت الغزو على العراق وعلى رأسها الولايات المتحدة الامريكية أو السجن المؤبد كما في بريطانيا، نظرا لالغاء عقوبة الاعدام بحق المتهم بالخيانة في عام 1998. تهمة الخيانة، اذن، حسب الدستور الامريكي والقانون البريطاني، اللذين اشير اليهما خاصة مادام العراق محكوما الآن فعليا من قبلهما كمستعمرين، جريمة كبرى. وقد اصدرت المحكمة الامريكية الفيدرالية العليا الحكم بالسجن المؤبد على المواطن الامريكي آدم يحيى غدان بتهمة الخيانة لأنه ظهر في عدد من اشرطة الفيديو متحدثا عن مساندته للقاعدة.
وهنا نتوقف لنتساءل اذا كانت امريكا، أم ديمقراطية 'العراق الجديد'، قد حكمت بالمؤبد على رجل بتهمة الخيانة العظمى لانه ظهر في شريط فيديو متحدثا، فقط، عن دعمه لمنظمة تعتبرها امريكا عدوة لها، فماذا كان سيكون حكمها على الطالباني والبرزاني والجلبي وعلاوي والمالكي والجعفري وصفية السهيل ورند رحيم فرانكي والباججي وكنعان مكية والهاشمي وحميد موسى والسامرائي والحكيم وغيرهم، لو كانوا من مواطنيها وقاموا بما قاموا به في العراق في داخل امريكا نفسها لمساعدة 'العدو'، علنيا وبلا خجل، في غزو واحتلال وتخريب امريكا؟
لفرط وضوح الصورة تنتفي الحاجة الى الاجابة. غير ان هناك حاجة ماسة الى التذكير، بين الفينة والفينة، بما هو اساسي، لئلا نغرق في متاهة وتضليل الاحتلال. ولنتجنب السقوط في فخ المسميات الجوفاء، مثل 'المصالحة الوطنية' و'دولة القانون' و'الانتخابات الديمقراطية' و'وطنية المالكي'.
وترتبط هذه الخيانات بجريمة توقيع العملاء على اتفاقية شرعنة بقاء العدو وتمديد هيمنته الامنية والاقتصادية والثقافية لفترة طويلة الأمد تحت مسمى أجوف آخر هو 'معاهدة الانسحاب'، وفي وقت تجاوز فيه عدد ضحايا الاحتلال المليون، أي ما يعادل 12 مليون مواطن امريكي بنسبة سكان البلدين. فهل كانت المحاكم الامريكية، مثلا، ستبرأ عصابة مجرمين ارتكبت مثل هذه الجريمة؟ ألم تزل الادارة الامريكية محتلة لبلدين هما العراق وافغانستان وفي طريقها لتحطيم بلد ثالث هو الباكستان بحجة الانتقام لمقتل 3000 شخص في 11 ايلول/سبتمبر 2001؟ لماذا لم يتعلم المسؤولون العراقيون كيف يدافعون عن شعبهم، كما تفعل امريكا مع ابناء شعبها، واكتفوا بان تعلموا منها، بانتقائية فريدة، كل ماهو كريه وبغيض وحافل بالنزعة الانتقامية؟
لقد خان سياسيو الاحتلال وطنهم يوم صاروا يستندون على عكاز القبول بالامر الواقع والبراغماتية السياسية لتبرير عبوديتهم. يوم تخلوا عن ابناء وطنهم الذين ذاقوا الامرين على مدى عقود من الحروب والحصار. لقد خان السياسيون والمثقفون العائدون من الخارج، على اختلاف قومياتهم واديانهم وطوائفهم ذكورا كانوا ام اناثا، ابناء شعبهم يوم جلسوا في المؤتمرات العالمية ليتحدثوا عما اصابهم واصاب اقاربهم من ظلم تحت النظام السابق ثم عادوا، صحبة الاحتلال، لينتقموا من كل مواطن بقي في العراق مواصلا العيش تحت اسوأ الظروف، من العلماء الى الاكاديميين الى الاطباء . لقد خان سياسيو الاحتلال ومثقفيه وطنهم يوم صاروا جزءا لا يتجزأ من كينونة الاحتلال والبوق العراقي للاحتلال الاجنبي والدرع الذي يحمي الاحتلال ويبرر وجوده بكل السبل الممكنة كذبا وفسادا وتضليلا. يوم رقصوا ودبكوا مع المحتل على جثث واشلاء الارواح المتعطشة، حقا، للحرية والديمقراطية بمعانيها السامية وليست الملوثة بدنس الكذب والنهب واخلاقية الانتقام وعصابات المحاصصة الجشعة لبطون تبدو، وكأنها تتمدد وتتسع لاحتواء المزيد كل يوم. يوم صار البرلمان في الزاوية الخضراء مقهى يؤومونه لاداء تمثيلية تشغلهم عن سماع صراخ الضحايا وأناتهم.
ونحن نستعد لسنوات عجاف مقبلة من الزيف والفساد المتراكم طبقات وطبقات ومن التضليل وقتل الاصوات المقاومة يبقى املنا في المواطن العراقي ببساطة عمقه الذي يضيء اكثر الطرق ظلمة وهو يقول: هل بامكان من يخون وطنه ان يكون وطنيا ويحترم القانون ويحقق العدالة ويفهم معنى كرامة الانسان؟