Wednesday 10 November 2010

المقاومة الأكاديمية العراقية بمواجهة التصفية الفكرية والجسدية

القدس العربي
31/07/2010

لم يكن الحضور الاكاديمي العراقي في المؤتمر العالمي الثالث للدراسات الشرق الأوسطية ( برشلونة 19- 24 تموز/يوليو) كبيرا. وهذه مسألة متوقعة نظرا لما مر ويمر به الاكاديميون من اوضاع مأساوية تتراوح ما بين التصفية الجسدية والتهديد بالقتل والترويع والطرد من العمل والترحيل القسري وعدم توفر الشروط الضرورية للمبادرات والتطوير المعرفي. اذ تجاوز عدد القتلى من الاكاديميين المئات حسب محكمة بروكسيل عن العراق، وانحدر مستوى التعليم بشكل كبير أعاد البلد الى ثلاثينيات القرن الماضي.
وقد انعقد المؤتمر، في دورته الثالثة، برعاية المعهد الأوروبي للبحر الأبيض المتوسط. وهو يعقد مرة كل اربع سنوات ويطلق البعض عليه صفة اولمبياد البحوث والدراسات الشرق الأوسطية. ساهم فيه، هذا العام، ما يقارب ثلاثة آلاف من العلماء والباحثين والمدرسين وطلاب الدراسات العليا والمهنيين وغيرهم من الجماعات المهتمة بالدراسات الخاصة بشمال إفريقيا والشرق الأوسط والدول الإسلامية في آسيا الوسطى، فضلا عن المناطق الأخرى من العالم التي تتأثر بشكل مباشر أو غير مباشر بما يجري في الشرق الاوسط.
وكان من بين الموضوعات التي عالجتها البحوث وبحضور اكاديمي كبير نسبيا الشأن التركي والايراني والاسلام ومذاهبه (حظيت الندوات عن المرجعيات الشيعية والاسلام السياسي والجهاد باهتمام خاص)، وكان للقضية الفلسطينية وخاصة في بحث دور الاكاديمي ومسؤوليته المجتمعية جلسات فضلا عن قضايا المرأة من جميع النواحي.
وكانت المشاركة الاكاديمية العراقية، على محدوديتها العددية، ضرورية لعدة اسباب من بينها: اولا، ابقاء الشأن العراقي، بتنوعه، حيا في الذاكرة وتسليط الضوء على القضايا الرئيسية بمواجهة الاحتلال والتغييب الاعلامي، بالاضافة الى سياسة التضليل السائدة في بعض المجالات الاكاديمية العالمية، المسايرة للهيمنة الامبريالية الامريكية، في اجواء تزايد التعاون العسكري الاكاديمي البحثي وبميزانيات كبيرة تبلغ المليارات. ثانيا، للتأكيد على ضرورة استقلالية البحث الاكاديمي والمنظمات الراعية له، خاصة، في اعقاب توقيع اتفاقية الاطار الاستراتيجي ما بين الادراة الامريكية وحكومة المالكي، وهي الاتفاقية المكرسة لاستمرارية الاحتلال الثقافي والاقتصادي والسياسي والمجتمع المدني. ثالثا، تقديم نموذج للعمل الاكاديمي المستقل المبني على مبادرات فردية غير مرتبطة بمؤسسات الاحتلال وحكوماته، ولا بالمصالح التجارية والمالية. رابعا، لخلق فرص التواصل مع بقية الاكاديميين والباحثين وفتح النقاش حول مختلف الموضوعات وتبادل الأفكار، وتعزيز وبناء شبكات للبحوث المشتركة.
وقد قامت الجمعية العالمية للدراسات العراقية المعاصرة )تأسست عام 2005) بتحمل مسؤولية تنظيم جلسات تناولت جوانب مختلفة من الشأن العراقي. فمن الناحية التعليمية، كانت هناك مائدة مستديرة نظمها الباحث التعليمي منذر الاعظمي بعنوان 'الوضع التعليمي في العراق بعد سبع سنوات من الاحتلال' وساهم فيها بروفسور سعد ناجي جواد (علوم سياسية - جامعة بغداد) بورقة عنوانها 'سيطرة الدولة، والتجهيزات، والاتصالات الدولية في الجامعات العراقية بعد الإحتلال'، ود. باسم الجنابي (قسم الدراسات الدولية في جامعة بغداد)، عن 'آثار عنف الميليشيات على العملية التعليمية في جامعة بغداد بعد الاحتلال'، ومنذر الأعظمي عن أولويات التعليم العام في المراحل الثانوية والابتدائية بعد خراب العقدين الأخيرين. وساهم عشرات المشتركين في مناقشات هامة عن جوانب جوهرية، تراوحت ما بين عمدية تصفية الكفاءات والتهجير بعد الإحتلال وأرقامها، الى الفوضى الإدارية والفساد الراهنين ومثال جامعة المستنصرية، والى الدور المحتمل المقبل للمبادرات المحلية للتفتيش وهيئات الآباء والمعلمين في المدارس لإنقاذها كمؤسسات مدنية وطنية تتجاوز الطائفية والعرقية والفساد.
ومن الناحية السياسية قام بروفسور طارق اسماعيل (علوم سياسية جامعة كاليغوري بكندا) بتنظيم جلسة بعنوان 'نهاية الدولة العراقية'، قدم فيها الفريق المشارك تقييما نقديا لنظرية وشروط تطبيق سياسة الولايات المتحدة الهادفة الى انهاء دولة العراق. وقد ركز الفريق على مفهوم انهاء الدولة ونتائجه المنظورة للعراقيين والمنطقة، فضلا عن السبل المستخدمة لانهاء الدولة وتحديات فهم السياسة الخارجية. وعالج الفريق المسؤولية عن ارتفاع التكاليف البشرية والثقافية للغزو بقيادة الولايات المتحدة، كما قيم الفريق التكاليف والنتائج المترتبة على سياسة انهاء الدولة. ودار نقاش حول المعايير الأكاديمية لإثبات النية المسبقة في تصفية الدولة العراقية وتخريب البلاد، وحول مسؤوليات الكتل السياسية التي تأسست خارج العراق بدعم من الدول الكبرى.
شارك في الجلسة د. ريموند بيكر (كلية ترينيتي، الولايات المتحدة الأمريكية والجامعة الأمريكية في القاهرة)، ود. كامل العضاض (اقتصادي مستقل) وديرك ادريانسن من محكمة بروكسيل لجرائم الحرب على العراق.
وبالنسبة الى الاعلام، نظم بروفسور طارق اسماعيل دائرة مستديرة بعنوان 'النقد المسموح به: الآداب نموذجا'، كان محورها القضية التي رفعها فخري كريم ولي (مستشار الرئيس العراقي) جلال طالباني ضد مجلة 'الآداب' البيروتية، حيث قدم رئيس التحرير سماح ادريس موجزا لتداعيات القضية والحكم الصادر واستئنافه.
وقام المساهمون في المائدة المستديرة بتقييم الحكم الصادر ليس فقط بالنسبة الى لبنان والعراق فحسب بل للمنطقة كلها. وهل هذا الحكم إرساء لمبدأ قانوني يمكن ان يتم من خلاله السيطرة على الخطاب النقدي من قبل مصالح مالية منظمة تتمكن من التلاعب بالنظام القانوني؟ خاصة وان الفرص المتاحة لحرية الصحافة وحرية التعبير في العالم العربي واهية في ظل أفضل الظروف، نظرا للتدجين المستمر لقوى المعارضة. هل سيشكل الحكم الصادر ضد 'الآداب' قاعدة تشير إلى ظهور آليات تسيرها ادوات مالية وقانونية إضافية لقمع التحقيق النقدي، وإذا كان الأمر كذلك، كيف يمكن التصدي لمثل هذه التدابير؟ ساهم في النقاش فيليب مارفليت (جامعة شرق لندن)، ريموند بيكر (ترينيتي كوليج امريكا)، فوات كيمان (جامعة كوتش، اسطنبول)، وكاتبة المقال. وكالعادة في كل المحافل الدولية تقريبا، جرى التطرق الى غياب الديمقراطية في كل البلدان العربية في مقابل ما ينظر اليه الغرب باعتباره 'ديمقراطية إسرائيلية'، وكان هناك مجال لإبراز الأكاديميين الفلسطينين الحاضرين طابع التمييز العنصري (الأبارتايد) الصهيوني، وظهرت، جلية، وحدة المواقف الفكرية المشتركة المستندة على مفاهيم الحرية والعدالة ومقاومة الاحتلال بين الاكاديميين العراقيين واللبنانيين والفلسطينيين، وارتباط النضال الوطني في كل ساحة بالنضال من أجل حرية الرأي والصحافة.
وكان لقضية المرأة مساحتها حيث نظمت هيفاء زنكنة جلسة بعنوان 'مواقف المرأة العراقية في ظل السياسة الامريكية في مكافحة التمرد'. وقد عالج الفريق المشارك جوانب متعددة من وضع المرأة، حيث قارنت د. سوسن العساف (جامعة بغداد) بين مساهمة المرأة السياسية في مرحلتي ما قبل الاحتلال واثناءه، وتحدثت تحرير سويفت (ناشطة وممثلة منظمة ارادة المرأة) عن عسكرة قضايا المرأة وتأثير الميليشيات والمرتزقة على بقائها، واعتبرت نوفة خدوري (طالبة ماجستير جامعة لندن) بان عدم تناول مساهمة المرأة في المقاومة العراقية بجوانبها المتعددة، من قبل العديد من الاكاديميين المعنيين بدراسات المرأة، استهانة بها وتهميش لدورها الوطني. اما ورقة هيفاء زنكنة فقد بحثت في كيفية تطبيق سياسة مكافحة التمرد من قبل الجيش الامريكي وبعض المنظمات العراقية غير الحكومية بالوكالة، لتبرهن بأن عسكرة قضايا المرأة، لا تدل كما يشاع اعلاميا، على نجاح سياسة مكافحة التمرد في العراق ولكن على فشل سياسة الولايات المتحدة. وقامت بتقديم امثلة تثبت بان توفير اماكن اللقاء والورشات للنساء ضمن المعسكرات او بحماية القوات العسكرية يعرض حياة المراة المشاركة للخطر باعتبارها متعاونة مع المحتل. كما يلعب دورا، على المدى البعيد، في عزل قضايا المرأة عن قضايا الشعب ككل.
ان استمرار مساهمة الأكاديميين والباحثين والناشطين العراقيين في المؤتمرات العلمية العالمية ضرورة لا بد منها لكي لا يتم تغييب الاكاديمي فكريا كما تم تغييبه جسديا، ولكي تبقى للمقاومة الاكاديمية مكانتها ازاء الحملة المنهجية لتفريغ العراق من عقوله التي شهدها ويعيشها العراق في ظل الاحتلال
.