Thursday 10 January 2013

الجامعة العربية التي فرقتنا

02/12/2011
مثل أهل الكهف، صحت الجامعة العربية، بعد نوم طويل، على حقيقة ان هناك شعوبا ذات حقوق في الحرية والكرامة تقطن البلدان التي يفترض فيها تمثيلها وليس مجموعة من الملوك والرؤساء فقط.
الا ان صحوتها زادت من ارتباك عقليتها المتأرجحة ما بين النوم واليقظة، فجمعت ذات الملوك والرؤساء، أو وزراؤهم (مع تغييرات طفيفة) وطفقت تصدر قرارات هي في جوهرها صدى لذات التحالفات القديمة مع النظام العالمي، حرصا على سلامتها وسلامته. فكان خطاب 'موافقون' مع الناتو، وها هو القرار الجديد لفرض المقاطعة الاقتصادية على سورية الذي أخرج بغطاء تفادي التدخل الأجنبي. ولأنني عراقية، تعرف جيدا معنى 'المقاطعة الاقتصادية' لم استطع وانا استمع الى قرار (جامعتنا اللي ماجمعتنا)، حسب مغنينا الراحل عزيز علي، بالمقاطعة الاقتصادية، الا ان اشعر وكأن صخرة جثمت على صدري فاكاد اختنق حزنا، متساءلة: هل نسيتم ما حل بالعراق جراء 'المقاطعة الاقتصادية' ودعوات التدخل 'الانساني' لانقاذ العراقيين من الظلم والاستبداد، وما جلبته قوات العراق 'الديمقراطي الجديد'؟
ان قرار جامعة الملوك والرؤساء، يدفعنا الى تساؤلات اخرى لاتزال بلا اجوبة منذ انطلاق تظاهرات الاحتجاج ومجابهتها بالرصاص من قبل النظام. أحد التساؤلات هو: هل لنا القدرة على تمييز طريقنا في هذا الضباب، وهل هناك قاع للكذب يصله الكذاب فيتوقف عنده؟ لا يبدو ذلك ممكنا في مجال السياسة في البلدان العربية. فبالونات الأكاذيب الملونة، يطلقها الحكام بلا انقطاع، حتى لحظات حياتهم الأخيرة. والطامة الكبرى في العلاقة بين الحاكم الكاذب والمحكوم الموشك على الانفجار، ان المحكوم لم يعد يهتم كثيرا اذا ما ادى الانفجار الى قتله والمحيطين به وغالبا الى تخريب بلده. هذا هو الجو العام المحيط بنا ونحن نرى انظمة الخلافة والتوريث العربي (التي ابتدأت بحركات التحرر) والانظمة المدعومة علنا وتاريخيا من قبل القوى الامبريالية (كلها عضوات في الجامعة العربية)، على حد سواء، تهتز وتنهار بدرجة تتجاوز حدود مقياس ريختر. فالثقة بين الحاكم / النظام المستبد والشعب قد دفنت في مقبرة نائية منذ زمن بعيد. وهي نتيجة تسلط حكام، غير خاضعين للرقابة والمساءلة والعقاب، يتصرفون وكأن الاوطان ملكهم الخاص والشعوب مجرد عبيد تتم مكافأتهم او معاقبتهم حسب درجة استعدادهم للخدمة. ويا ويل من يعارض ويعترض او يطالب بحقوقه. فالحاكم هو صاحب السمو والشعب هو العبد الذليل المهان. الحاكم وعائلته واتباعه يتمتعون بثروات البلاد بينما يخوض ابناء الشعب في وحل الفقر والفساد وانعدام الحريات. انها الفجوة التي تتسع، يوما بعد يوما، ولا امكانية لردمها أحيانا مهما حاول المواطنون، سلميا. اذ يصبح الوطن فكرة مجردة لا تعود للمواطن حصة فيه، وان كانت كل الخطب الرسمية تطالبه بان يكون القربان الذي يجب التضحية به لحماية بلد لم يعد يتعرف عليه. فلا عجب الا يثق المواطن السوري المشارك في الانتفاضة، برطانة السياسيين واعلاناتهم عن بضعة اصلاحات، جاءت وباعتراف حتى المدافعين عن النظام، متأخرة على حساب حياة الضحايا وعذابات ذويهم وعلى حساب مخاوف الجميع من مستقبل مجهول. اذ وصل الطرفان الى حافتي هوة موشكة على ابتلاع الجميع، ليس سورية وحدها، خاصة بعد ان ظهر من يطالب، صراحة، بالتدخل الخارجي 'الانساني' واعلان جامعة 'الحكام العرب' قرار المقاطعة الاقتصادية. ان الشعب السوري الذي يمارس حقه الطبيعي في التظاهر والدعوة الى تغيير النظام بعد عقود من الطغيان، والذي يواصل دفع الثمن الغالي، يواجه اليوم، خيارا قاسيا وفي لحظة تاريخية تدفعنا الى استعادة ما حدث في العراق، عشية غزوه واحتلاله، مع فارق مهم ان داخل العراق لم يشهد ما تشهده سورية من تحرك شعبي مستمر، بل كانت معارضة النظام العراقي مقيمة في الخارج منذ عقود طارحة نفسها للبيع في سوق الاستخدام لحكومات ومخابرات امريكا وبريطانيا بشكل رئيسي. لذلك اجدني اقف ضد قرار المقاطعة، لئلا يعاقب الشعب السوري كما عوقب الشعب العراقي على مدى 13 عاما، حتى اصبح الغزو والاحتلال، في اذهان الناس، هو المنقذ الوحيد من الحصار. واذا ما كان العالم قد نسي نتائج الحصار على الشعب العراقي، الذي لعبت فيه الانظمة العربية دورا كبيرا بامتياز، فلنذكر من نسي.
أولا ان مصطلح 'المقاطعة الاقتصادية' أكذوبة تستخدم للتضليل الاعلامي ولشرعنة تجويع ابناء الشعب، مهما حاول متبنوه ادعاء غير ذلك. بالنسبة الى العراق، كان ما فرض عليه، بعد قصف مستمر لمدة 45 يوما، استخدمت اثناءه، قذائف اليورانيوم المنضب، ليس مقاطعة اقتصادية بل حصارا جائرا شمل كل شيء من اقلام الرصاص الى مواد التخدير وادوية السرطان وادوات تشغيل المصانع والانتاج بانواعه. وحرم العراق من السيولة النقدية، فكانت الضحية الاولى رواتب موظفي الدولة بضمنهم الاطباء والمعلمين (وهذا ما سيحدث في سورية عندما لا تتوفر السيولة النقدية للنظام)، مما دفع الكثيرين الى ترك العمل الذي لا يستوفي اجرة الطريق اليه. فأضعف الحصار الشعب الى حد جعله غير قادر على التفكير بشيء سوى لقمة العيش والحصول على ابسط انواع الادوية (من يجري عملية جراحية عليه جلب المخدر وقفازات الجراح وبقية الادوية). كانت حملة ابادة جماعية، حسب تصريح دنيس هاليداي، مفوض الامم المتحدة ببغداد، نفدت بقرار من مجلس الأمن المهيمن عليه دول 'الحضارة الغربية' بحجة تخليص العراقيين من الظلم. فكانت النتيجة قتل نصف مليون طفل بقرار 'حضاري' وترك الآلاف من الاطفال المشوهين والمعاقين والفتيات اللواتي يعانين، حتى اليوم، من ظاهرة التقزم نتيجة سوء التغذية. هذا هو جيل المقاطعة الاقتصادية. جيل تبرع له الاطفال الفلسطينيون بأقلام الرصاص لأن اللجان 'الانسانية' المشرفة على المقاطعة قررت ان الرصاص الموجود في الاقلام قد يستخدم لتصنيع اسلحة الدمار الشامل. وحين سئلت وزيرة الخارجية الامريكية مادلين اولبرايت اذا كان التخلص من نظام صدام حسين يستحق موت نصف مليون طفل قالت نعم انه يستحق ذلك.
بروح 'التضحية الانسانية' هذه، نسمع هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الامريكية الحالية، وهي تحيي جامعة الحكام العرب، على قرار 'المقاطعة الاقتصادية' الذي أصدرته الجامعة بالنيابة عن امريكا وحلفائها. فكم من الأطفال السوريين، ستكون كلينتون مستعدة للتضحية بهم، لأن الثمن يستحق ذلك؟